كان الفن منذ أن طوع الإنسان الأشياء وجمّلها لتكون نتاج إبداعه؛ لغة روحه التي عبر بها عن ذاتها أو موضوعها وتطور ذلك وأصبح الفن رسالة وفكرة، كانت الفنون الستة النحت والموسيقى والعمارة والشعر والرسم والرقص الحقل الذي يخلق فيها الإنسان إبداعه ولغة يخاطب بها سياق تاريخه؛ فالفن أكثر طريقة لفهم الإنسان لذاته وفهم الآخر له، حتى أتى في العصر الحديث الفن السابع الذي يحتويها كلها في كتلة واحدة وهي السينما أو التصوير في إطار يشمل الصورة والألوان والموسيقى والحركة والنص مسجلاً يمكن مشاهدته في كل زمان.
هذا الفن الجديد الذي نعيشه كان يتعاطى مع القضايا في وقتها وكانت ردة فعله تشفي غليل من يعانيها وتؤتي أُكلها وثمرتها ملموسة أثراً، بل كان بعضه يحمل همًّاً ويناقش أموراً تحدث الآن وكأنها تنبؤ بما كانت به الأيام حُبلى وهذا الحدس الفني افتقده المتلقي.
منذ ظهور وسائل التواصل ظهر العامي وسحب البساط «بالسنابة» الخفيفة من تحت أقدام الممثل والمؤلف الذين يحبكون ويطبخون فكرة العمل على نار تفكير ونقد وبروفة حتى تنضج وتكتمل.
تغير معها شكل الفن حتى إذا ظهر لم يعد هو من يؤثّر، بل يتأثر.
«بالسماجة» فأصبحت الغلبة في هذه الجدلية لمشاهير السذاجة فإصابته عدواهم، ربما لكثرة صوت أتباعهم من القطيع أخفى صوت المثالية الزائف أنين الواقع الموجوع وفلتروا ملامحه حتى اختلط الحابل بالنابل ولم يظهر ويفيض عن إنائه إلا ما أظهروه.
اليوم إذا ظهر فلما أو مسلسل عربيا قلما تجد فيه ما يعالج أمراً استفحل ويحتاج علاجا فلا تدري أهي رقعة الأحداث ضاقت حتى لم يجد الفن رقعة متسعة لعلاجها ولا الرقعة زي ما هي بس كبرت عليهم وفقدوا السيطرة، أو هي الأفكار شحت عند الكتاب والمؤلفين وبنات أفكارهم تبخرت ولم تجد بيئة مناسبة للتلاقح أو هي خوف من التكرار حتى لا يقال قديم بال! وما ضر إذا كان القديم هادفاً وتكرر حتى يسد ما وجد من الخلل.
بعد أسابيع يطل علينا رمضان الباسم هلاله في قلوبنا بلغنا الله إياه، سيكون أرضاً خصبة تتدافع في عرصاتها مناكب الأعمال التلفزيونية وعادة رمضانية منذ أن دخل البيت العربي التلفاز، وعلى رأس هذه الأعمال يعود أقدمها «طاش» على استحياء بعد انقطاع «وبدون نفس» ليكون أكثرها دسامة لما يحمله من إرثًا في ذكرى جيل «الطيبين» كان مرآة لواقعنا فترة من الزمن واليوم تغير السياق وأغلب ما كان يتطرق له تم حله وعفا الزمن عليه وتجاوزه.
أضحك الكثير وأبكى في بعض فصوله بعضهم، فمن لا يتذكر حلقة القصاص التي كانت رسالة حقيقية للفن لما يحدثه من أثر ويثيره من مشاعر؛ وأكثر قلق معاصريه والتحدي الذي سيواجه العمل بعد كل هذه الانقطاع والتغييرات هل سيكون شكله الذي عرفناه في تناوله لأزمات المجتمع الذي تجاوز اغلب ما طرحه؟ مثل قيادة المرأة للسيارة والعمل والسفر بغير محرم؛ هل يكون النص على قدر من الواقعية والجدية بعيداً عن السوقية؟
حتى أقطابه الذين كانوا على صفاء ووداد هل سيقدمونه بصراحة تتجاوز خطوط الوهم، بحرارة وانسجام الماضي واضعين ندوب الفراق الظاهرة بينهم على الهامش؟
** **
- عبدالعزيز سعيد المالكي