أحرف الكتاب الذي سطره أستاذنا الشمسان في أخيه محمد أضاءت حقبة زمنية ممتدة لعشرات السنين، فاهتزت وربت واحتشدت بالحياة وأنبتت كل معنى جميل، وأصبحت تموج بحركة لا تتوقف، وتفيض بإخاء نقي في زمنٍ الوجوه فيه مكفهرة، والقيم مغبرة، أصابتها تصدعات المدنيَّة، وسرقتها الأنانية في زحمة (أنا) التي أصابتها الأدواء أو ما يعرف بالحمل الكاذب فأصبحت (نحن) السراب.
أستاذنا الشمسان ما طرق بابًا من أبواب العلوم أو القلوب إلا فتحه، يفتح باب الصنعة النحوية بتقعيد بعيدًا عن التعقيد، ويفتح نحو القلوب بلطف وعطف ورقي وسمو في التعامل والمعاملة، ويعزف بلغته ومواقفه ألحانًا فريدة أمام قلوب محبيه فيوقعهم في شراك محبته طوعًا، ويبعث فيهم الحياة ويفجرها أنهرًا.
ضمَّن كتابه بعض مناقب أخيه ومواقفه، وأنتج ثريدًا من الوفاء بعد مضي هذه السنين بتقلباتها وأحداثها؛ ليؤكد بذلك أن الأرض الطيبة تمسك الماء فتؤتي أكلها مرتين. إنه كتاب الوفي لمن يستحق الوفاء، كتاب الوفي المفتون بالقيم الأصيلة في أخيه المسكون بالإنسانية، كتاب تفيض أحرفه وكلماته وجمله محبة، وتسمع لمعانيه تراتيل المتبتل في محراب الإخاء، والمتمسك بعرى الأسرة، والقابض على بقايا المجتمع الغابر في زمننا الغابر.
كتاب يدهشك بسرده تفاصيل في منتهى الدقة، ويجرفك بسيل مفرداته وصوره وتصويره لتجد نفسك في أطراف قريتك، وأزقتها ووديانها وجبالها وأسواقها ومدارسها، بلغة ممزوجة بنكهة الحياة الأولى، ومشربة بنقاء الوفاء في صورته المثلى.
يصور لك الكتاب تفاصيل البيوت وأنماطها وحكاياتها وأحوالها، ومشاغبات الطفولة وعذوبتها وعذاباتها وتقلباتها، ويجرح متلقّيه بإلقائه من شاهق هذه الحياة (الخالية) إلا من الزخرفة إلى قاع تلك السنين (الخالية) الممتلئة محبة وحياة، ويمنحه البلسم حين يأخذه إلى باب الوفاء، ويحلق به في فضاء الإخاء، ويجعله يتسلق عنفوان الذكريات، ويقاوم اهتزازات الشوق، ليصل معه إلى أعالي قمم القيم الإنسانية.
إنها صفحات محدودة لسيرة ممدودة، كتبت بلغة الروح وروح اللغة، تفيض بطوفان من التفاصيل التي تصف وتعصف، وتهدّ وتشد، وتجعل المتلقي يمسك بتلابيب ألفاظ كاد النسيان يقضمها، أو يطمرها.
لقد تفرَّد شيخنا العلامة الأستاذ الدكتور أبو أوس إبراهيم الشمسان بالوفاء ومزج أحرفه بإنسانية في زمن اجتاح سيل الجفاء والجفاف والأنانية عالمنا وأرواحنا فصيرها قاعًا صفصفا. ولستُ مبالغًا إن قلت: إن الإجماع منعقد من شيوخه وأقرانه وأسرته وطلابه وجيرانه على أنه المستحق لوسام الوفاء؛ ويأتي هذا المنجز الكتابي المفرد للحديث عن أخيه شاهدًا على تفرده بوفاء استثنائي لردِّ بعض صنيع أخيه الأكبر محمد، وسرد أفضاله عليه، وإيراد شذرات من محطات حياته، مظهرًا العجز عن الإحاطة بمواقفه، متخيرًا صورة لأخيه يقدمها للقارئ بعبارة بليغة موجزة في ألفاظها واسعة في دلالاتها: (الذي احتمل عني أوزار الحياة).
الحقيقة، تستوقفك كتابات كثيرة، تراودك عن نفسها، تغريك بزينتها اللفظية، وتستغويك بمفاتنها الأسلوبية، ورشاقتها المعجمية، وتثنّي معانيها، لكنها وضعت في غير موضعها، وقيلت بعد رحيل مستحقيها، بعد ألا معنى للكتابة غير التسلية، أو تقمص التمظهر. وجاءت كتابات أستاذنا متفردة كتفرّده المعتاد؛ لإخراج تلك المواقف من الذاكرة إلى المذكِّرة المدونة المقاومة للنسيان والمؤنسة للإنسان، وتدوين اعتراف أمام الملأ بالفضل، وإسداء معروف يليق بأخيه في حياته.
ويبدو أن أستاذنا لم يشأ أن يقدِّم على أخيه لفظًا؛ إذ حقه الصدارة دومًا، ولذا عنون كتابه بـ(أخي محمد الذي احتمل عني أوزار الحياة)، افتخارًا ووفاء، وإعلاء لمكانته، واعترافًا بفضله وتفرده في إخوته. إنها الأسرة الطيبة حين تمسك المعروف، فتهتز وتنبت وتثمر كلَّ فعل جميل.
كتاب تفرَّد بسرده، وجمال عرضه، ومن بديعه أنه يبعثرك ويجمعك في آن، تبتسم وأنت تعيش الدور، ويذهب بك بعيدًا إلى حكايات الأسر وقصصهم وعاداتهم، والحياة الاجتماعية وبساطتها وصعوبتها وعذوبتها، وتفاصيل كثيرة تجبرك على عقد المقارنة بين بيئة الكاتب وبيئتك.
وأجدني أجزم أن من سيقرأ الكتاب سيبدأ رحلة جديدة مع الكتابة، وسيردد قبل طي الكتاب: شكرًا أبا أوس؛ أمتعتنا، وعلمتنا جزءًا من الوفاء، وإهدائه إلى مستحقيه لجني بعض ثمارهم، أما بعد الممات فأحاديث نتسلَّى بها نحن.
** **
- ياسر الشرعبي