د. شروق إسماعيل الشريف
الحمد لله الهادي إلى الرشاد، القائل في محكم التنزيل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، القائل في سنته المطهرة: «حتى يعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بعثتُ بحنيفية سمحة»... وبعد:
فإن من أدل علامات رحمة هذا الدين السمح العظيم بالإنسانية جمعاء أن عني عناية كبيرة بالفطرة التي خلق الله الناس عليها، ولم يول ظهره مستنكرًا لغرائز النفس البشرية، بل رأف بها، وهذَّبها، ووجه بوصلتها إلى مواطن الرشاد، ولم يزدر حاجتها الملحة إلى الترويح والتسرية والمرح، بل رخّص الاستمتاع به، وتجاوز هذا الأمر إلى الدعوة إليه والتنبيه عليه، ما لم يترتب على ذلك ضرر أو مفسدة.
والمتدبر نصوص القرآن العظيم يجد الآيات الدالات في صراحة ووضوح على مشروعية وجواز الترويح عن النفس؛ فقد قال عز من قائل: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ (الجمعة: 11).
فمقام الذم هنا ليس منصرفًا إلى التجارة واللهو، بل إلى الانشغال بهما عن رسول الله وما يدعو إليه من تعاليم الدين الحق؛ ولهذا يخطئ من ينظر إلى الإسلام بوصفه شريعة تدعو إلى التشدد والمغالاة، أو عقيدة تحرم على أهلها التمتع بمباهج الحياة ولذائذها، بل هو دين سمح يؤكد على حرمة الخبائث قدر تأكيده على جواز الطيبات، مما تستطيبه النفس، وتميل إليه الجوارح والحواس، وليس من المستساغ أو المتصور أن يخلق الله عباده على الفطرة، ثم هو سبحانه يستنكر فيهم دواعي هذه الفطرة وما تميل إليه، ما دام ذلك كله محكومًا بالإطار الشرعي القويم، ومنضبطًا مع الفطرة السليمة.
هذا ولم تخل سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحات التي احترمت هذه الفطرة البشرية، وحاجتها إلى إدخال المرح والسرور على نفسها، ونفورها من دواعي الملل والسآمة، ومن هذه الأحاديث ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال له: «يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل. قال: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا».
ومما هو ثابت عن رسول الله في سيرته العطرة جوازه لجاريتين في يوم عيد أن يضربا بالدف، وسماحه لنفر من الحبشة أن يرقصوا برماحهم في مسجده، وكان عليه الصلاة والسلام لا يجد غضاضة في أن يمازح زوجاته وأصحابه، ويضاحك العجوز والطفل، وقد أخبر الحسن رضي الله عنه أن عجوزًا أتت النبي عليه الصلاة والسلام ترجوه أن يدعو لها بالجنة، فأعلمها أن الجنة لا يدخلها عجوز، فلما خرجت من عنده تبكي تبسّم النبي وطلب من الحضور أن يخبروها بأنها لن تدخلها وهي عجوز؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا (الواقعة: 35- 36- 37).
حتى إن بعض الصحابة الكرام كأنه تعجب من مسلك النبي حين يمازحهم، وهو الذي يتلقى الوحي من السماء، والمأمور من ربه بالدعوة إليه والجهاد في سبيله، وانبرى نفر كريم منهم يقولون له: «يا رسول الله إنك تداعبنا»، فأجابهم: «إني لا أقول إلا حقا» وهو بذلك -صلى الله عليه وسلم- يُجلي الحقيقة من غموض الدين، ويؤكد على أن جوهره النفيس ينظر إلى الناس على أنهم بشر، ويراعي طبيعة النفس الطالبة إلى الترويح والتسرية، الجانحة إلى التعلق بفنون اللهو البريء، وينبه على أن وقت الفراغ إذا سرب في مسارب اللهو البريء والترويح الصحيح يكون إضافة للعمر وللحياة، فتمسح النفس ما علقت بها من آثار التعب، وتجدد بها نشاطها وإقبالها على العمل.
وعلى ذات الدرب سار الصحابة والتابعون؛ فقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال:
« أجموا هذه القلوب –أريحوها- والتمسوا لها طرف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان».
إن إرادة الله العظيم حين ارتضت للعالمين هذا الدين الخاتم الخالد جعلت من علامات خلوده وصلاحه إلى قيام الساعة أن يكون متوائمًا في منهجه مع حياة الفرد في شقيها: الدنيوي والديني؛ فلا هو دين يريد من أتباعه الانقطاع الدائم للعبادة، أو العيش في الخلوات والمحاريب تفرغًا للصلوات والنُسُك، ولا هو دين يُعلي مقام الغريزة ويبارك الانغماس في أوقات اللهو والملذات، بل جعله الله دينا قيمًا، يرسخ لمكارم الأخلاق وللمثل الفاضلة، وفي ذات الوقت يتفهم طبيعة النفس الإنسانية النزّاعة إلى تجديد نشاطها بشيء من الترويح والتسرية، وألوان من المرح البريء الذي يتوافق مع الفطرة السليمة النقية.
وإني لأعجب من موقف البعض، لماذا ينكبون على تقديم صورة قاتمة للإسلام لا تستند في فقه الإسلام نفسه على أساسٍ صحيح؟! فيصورون لنا الدين في صورة ضيقة، حتى يكاد بعضهم أن يحرم على الناس كل شيء!! مع أن المطالع فقه الإسلام الصحيح لن يلق في الكتاب الكريم نصا ولا في السنة المطهرة حديثًا يحظر المرح أو التسلية أو اللعب إلا ما أسفر عن مفسدة وضرر، والله تعالى يقول: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف: 157).
إن من فيض سماحة هذا الدين العظيم أن جعل الأصل فيما خلقه الله الإباحة، فإذا دلّ الدليل النقلي من الكتاب أو السنة بنص صريح على تحريمه فهو حرام، وقد شرع ربنا الرحيم بعباده في أوقات الشعور بالخوف أو الملل أو التوتر النزوع إلى التسرية عن النفس، وملاطفتها بألوان المرح والمتع البريئة. ألم يُهرع نفر من الصحابة إلى عامر بن الأكوع – وقد كان رضي الله عنه شاعرًا مفوهًا – غداة خروجهم إلى خيبر مع رسول الله يطلبون منه أن يسري عنهم ببعض من الشعر، فأنشدهم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا
إنا إذا صيح بنا أتينا
ولست أرى تعارضًا بين الدين وألوان الممارسات الترويحية المختلفة طالما كان الفعل منزهًا عن إيقاع الضرر بالنفس أو الغير، ومتسقًا مع قول الله الحكيم: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا (البقرة: 229)، بل إن صنوف المرح واللهو المجددة للنشاط، والمقوية للإرادة، والمحفزة للهمم، والمعينة على العمل، والكاشفة عن سماحة الدين وملائمته للفطرة من الأمور التي يدعو إليها ديننا الحنيف، وينظر إليها باعتبارها مطلبًا لا هبة، وضرورة لا منحة؛ لأنها بهذه الحالة تكون من الطاعة إذا أعانت على طاعة.
وخلاصة القول: إن حياة الأنام لابد قائمة على التوازن والتكامل، وفي ميزان الإسلام لا توجد حياة روحية خالصة أو حياة مادية خالصة، والمرء بطبعه ملول لا يصبر على جد دائم، ولا على هزل دائم، من هنا كانت نظرة الإسلام العامة للكون والملكوت: امتزاج الدين بالدنيا، وأداء واجبات العبودية والعمارة في الأرض مع الاعتراف بحقوق النفس والفطرة.