د. عبدالحق عزوزي
فرنسا هي البلدة الأوروبية الأولى التي تعرف عددا لا يحصى من المظاهرات اليومية والأسبوعية والشهرية وهي موضة فرنسية بامتياز؛ وكل مرة تجد نفسك محاصراً إما لأن سيارة الأجرة لا تستطيع أن توصلك إلى المطار وإما لأن رحلات الطائرة أو القطار ألغيت في آخر لحظة... المهم هناك سلسلة لا متناهية من الإضرابات التي بدأنا نضرب لها ألف حسبان بتتبع الأخبار وقراءة ما تريد أن تفعله النقابات قبل أخذ قرار الذهاب إلى فرنسا أم لا ومتى يجب الرجوع منها؟
ففي السنين الأخيرة، تابع الجميع ما قام به المتظاهرون الفرنسيون الذين يرتدون السترات الصفراء والتي كان يتعين على جميع سائقي السيارات في فرنسا حملها في سياراتهم، في جميع أنحاء البلاد وما وضعوه من حواجز محترقة وقوافل من الشاحنات بطيئة الحركة؛ وكان المحتجون يعارضون الضرائب التي فرضها ماكرون على الديزل والبنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل أكثر ملاءمة للبيئة... ومن كان حاضراً في تلك الفترة في باريس وزار جادة الشن ايليزي المشهورة لظن نفسه في ساحة تمثيل فيلم حربي هوليودي... فقد استخدمت الشرطة في تلك الفترة الغاز المسيل للدموع ضد متظاهري «السترات الصفراء»، واستعملت كل وسائل الفر والكر...
ثم كانت هناك مظاهرات عارمة في زمن الكوفيد احتجاجا على قرار فرض الشهادة الصحية والتطعيم الإلزامي على مقدمي الرعاية؛ وسمى المتظاهرون عمليتهم تلك بضرورة محاربة «الدكتاتورية الصحية» التي جاء بها الرئيس ماكرون يفرضها على المواطنين في خرق لمبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة... والصحيح أن تلك المظاهرات هي ظاهرة وعادة فرنسية بامتياز...
وكانت هناك مظاهرات حاشدة رغم قيود كوفيد وسوء أحوال الطقس، ونشبت احتجاجا على مشروع قانون «الأمن الشامل»... إذ تجمع آلاف المحتجين في عدة مدن فرنسية للتنديد بتقييد الحريات وبالقيود المفروضة للحد من انتشار الفيروس كورونا والمطالبة بإنعاش القطاع الثقافي الذي تضرر بشدة من الوباء. وانضم إلى المتظاهرين نشطاء من حركة «السترات الصفر» التي اجتاحت فرنسا لأكثر من عام قبل أن يقيد الوباء نشاطها. ويحتج المتظاهرون ضد مشروع قانون يحظر تصوير أنشطة الشرطة، والذي سبق وأن قال الرئيس إيمانويل ماكرون إنه سيعيد النظر فيه، وأيضا ضد استخدام وسائل مراقبة مثل الطائرات بدون طيار.
وأثارت لقطات لعناصر بيض من الشرطة وهم يضربون منتجا موسيقيا أسود في الاستوديو الخاص به في باريس، الغضب من مشروع القانون الذي ندد به كثيرون ووصفوه بأنه يؤشر إلى انحراف ماكرون نحو اليمين.
وبدأت الاحتجاجات في تلك الفترة بما فيها تلك التي تخللتها اشتباكات بين متظاهرين وعناصر الشرطة، في فرنسا وذلك بعد تبني الجمعية الوطنية، في القراءة الأولى مشروع قانون «الأمن الشامل»، الذي تفرض المادة 24 منه عقوبات سجن تصل إلى سنة ودفع غرامة كبيرة جدا قدرها 45 ألف يورو في حال نشر صور لوجوه أو مكونات الهوية الأخرى لأفراد الشرطة وقوات الدرك أثناء أدائهم واجباتهم «بهدف الإضرار بسلامتهم الجسدية أو العقلية».
وهاته الأيام تعيش فرنسا مظاهرات حاشدة، ومن هو حاضر هناك فلربما عاش مرارة الشلل شبه الكلي الذي أصاب حركة النقل بسبب تواصل الإضرابات...
وهاته المظاهرات تأتي ضد مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة لتعديل نظام التقاعد ومن أهم بنوده رفع سن الإحالة على المعاش من 62 إلى 64 عاماً... وعلى الرغم من التباين الكبير في تقدير أعداد المحتجين، فإن عدد المشاركين يزدادون في التعبئة، وهناك إجماع شعبي على ضرورة إسقاط هذا التعديل...
وقد اختارت الحكومة الفرنسية أن تمدد سنوات العمل لمواجهة التدهور المالي لصناديق التقاعد وشيخوخة السكان؛ كما تدافع الحكومة عن مشروعها باعتباره «يحمل تقدما اجتماعيا» خصوصا من خلال تعزيز معاشات التقاعد الصغيرة.
يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «تغيير المياه الراكدة» في فرنسا ولذلك يؤكد عدم تقديم أية تنازلات بهذا الشأن؛ وهو الذي اعتاد على مثل هاته المظاهرات لأنها تشكل موضة فرنسية بامتياز؛ ولكن مع ذلك فإنها تبدو خطيرة على المستقبل السياسي له ولحزبه... وهذا النوع من الاحتجاجات يحمل إلى الشوارع إضافات كبيرة من التوترات والصعوبات خصوصا لدى الطبقة المتوسطة.