محمد الشريف
صدر حديثا بتاريخ 31-12-2023 مؤشر مدركات الفساد للعام 2022م، وهو تقرير تصدره سنويا منظمة الشفافية الدولية ومقرها برلين منذ عام 1995م، وترصد فيه مستويات الفساد في القطاع العام في (180) دولة، وما طرأ عليها من تحسن أو تراجع، ويمكن تعريف المؤشر بأنه تقرير أو مؤشر مدركات، وليس إحصائيات، وهو أقرب ما يكون إلى الحقيقة، وتستقي فيه المنظمة معلوماتها من (13) مصدرا خارجيا، منها البنك الدولي، والمنتدى الاقتصادي الدولي، وشركات الاستشارات وحسابات المخاطر، والمرجعيات الفكرية، والخبراء ورجال الأعمال، فضلا عن مكاتب المنظمة حول العالم، ومن هنا يحوز المؤشر على قدر كبير من الموثوقية والمصداقية، تجعله الأفضل من بين عدة تقارير ومؤشرات تصدرها هيئات ومنظمات عالمية أخرى.
والانطباع العام الذي يخرج به المحلل الموضوعي من التقرير هو أن معظم دول العالم لا نزال ترزح تحت وطأة الفساد، وأن من الأمور التي تسهم في ذلك إسهاماً بارزاً انتشار التوتر والفقر والحروب، وعدم الاستقرار في العالم، لا سيما الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا، تساندها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، ذلك أن الحروب تتطلب إنفاق أموال طائلة دون حساب، لتوفير مختلف أنواع الأسلحة، وتعتمد في ذلك السرية التامة التي بسببها لا تمر تلك الأموال بأي محاسبة، مما يعرضها لصنوف من الفساد، يزيد من ذلك أن الدولة الكبرى التي تبنت الحرب ابتداء، وهي روسيا، لا تحوز على تاريخ مشرف في النزاهة، حيث يقف مستوى النزاهة فيها عند (27) درجة من 100.
وكان من أهم ما كشف عنه المؤشر أن الدانمارك تتربع على عرش النزاهة بامتلاكها (90) درجة من (100) رافقتها كل من فنلندا ونيوزيلندا بمستوى (87) درجة لكل منهما، في حين جاءت الصومال، وهي دولة عربية مع الأسف كأفقر دول العالم في النزاهة وأكثرها فسادا، إذ لم تحقق سوى (12) درجة من (100).
كما ذكر المؤشر أنه منذ عام (2017) لم يحرز أي بلد تقدما ملحوظا في مستوى النزاهة، ولعلنا نستغرب ونتألم حين نعلم أن المعدل العالمي للنزاهة لم يتجاوز (43) درجة من (100)، وأن هذا المعدل ظل ثابتاً خلال عقد من الزمان، وهو ما قد ينبئ عن أنه لا أملا يرجى في أي تحسن قادم في مكافحة الفساد في العالم!
وحين نعرج على مستوى الدول العربية في المؤشر نجد الأمر محزنا لأن الفساد يطغى عليها إلا ما قل، بدليل أن معدل النزاهة فيها لا يزيد على (34) درجة من (100) وهو يقل كثيرا عن المعدل العالمي للنزاهة الذي ذكرناه، وإذا فلا غرابة في أن تحتل ثماني دول عربية ذيل القائمة بسبب توغل الفساد وسيطرته على مفاصل الدول الثماني.
وهي: لبنان والعراق والسودان وجزر القمر وليبيا واليمن وسوريا والصومال، حيث إن معدل النزاهة فيها يراوح بين ( 12و 23) درجة من (100) وهو أمر مخجل حقاً.
وبلا شك فإن الأوضاع السياسية والقلاقل والحروب والانقلابات سبب مباشر فيما هي فيه من أوضاع.
ومما يهمني أن أقوله قبل إنهاء مقالتي هذه: إن منظمة الشفافية الدولية مؤسسة مجتمع مدني مستقلة تماما، وغير خاضعة لاتجاهات أي دولة، ومن ثم فإن كل مؤشراتها لا تأخذ صفة الالتزام أو حتى متابعة التنفيذ من قبلها، وهو ما يفسر تجاهل معظم دول العالم لها، وعدم اكتراثها بها، وسبق لي أن طرحت في مقالي السابق عن مؤشر عام (2021) وجهة نظر مفادها أنه يجب أن يكون هناك تنسيق وتفاهم بين الدول والهيئات والصناديق التي تقدم قروضا أو مساعدات من أي نوع، بحيث تأخذ في اعتبارها وضع الدول الممنوحة ومستواها في النزاهة ومكافحة الفساد وفق ما يرد في مؤشرات مدركات الفساد، وذلك قبل الموافقة على المنح، لكي تجعل من شروط المنح تعديل وضعها، وبدون ذلك سيستمر الفساد ينهش في مقدرات الشعوب والأوطان، وسنرى تساقطا أكثر للدول في براثن الفساد.. والله من وراء القصد.
** **
- رئيس (نزاهة) سابقاً