رضا إبراهيم
يشير لفظ «مدير» إلى وجود شخص ذي درجة كبيرة في مجال الإدارة، للإشراف على دائرة ما محددة بشركة أو مؤسسة أو برنامجٍ أو مشروعٍ من المشروعات، والمدير يمثل مظهر وجوهر النشاط الإداري والعملية الإدارية كلها، فلا يوجد عمل جماعي دون رئيس، ولا توجد إدارة دون مدير، ووظيفة المدير في الإدارة العامة هي وظيفة لها تأثير جوهري في إنجاحها وتحقيق أهدافها، والمدير عادة يجب تمتعه بعدة صفات للوصول إلى النجاح الذي تبتغيه المؤسسة التي يعمل بها.
ومنذ ظهوره وحتى الآن، وضع الإسلام أيضاً عدداً من المعايير والصفات المهمة للمدير المناسب، والناظر إلى الحال والقارئ لصفحات التاريخ الإسلامي، يعلم أن بداية طريق الانتصار تأتي من خلال اختيار القيادة الصحيحة الأكثر كفاءة، وأن نصر الله للمسلمين وتمكينهم في الأرض بل وارتقاءهم وتقدمهم، يلزمه في الأساس تقديم القائد الأصلح منهم ووضع الرجل (المدير) المناسب علماً وأمانة وخبرة وصدقاً وبصيرةً في المكان المناسب، والإسلام ذلك الدين القيم الذي لا عوج فيه أكد على تلك القضية مراراً وتكراراً، وفي سيرة سيد الخلق «محمد صلى الله عليه وسلم» يظهر اختياره من بين جموع المسلمين شاباً لم يكن يتجاوز عمره بضعاً وعشرين سنة، وهو عتاب بن أسيد لإدارة مكة، بإصداره صلى الله عليه وسلم قراراً بذلك.
ثم قال لعتاب: أتدري على من استعملتك؟، استعملتك على أهل الله - عز وجل - فاستوصِ بهم خيراً يقولها ثلاثاً، ومع رؤية الصحابة الكرام قلة تجربة الشاب في شغل منصبٍ حساسٍ كهذا، أبدوا تساؤلات حول ذلك الأمر الجديد نوعاً ما على المسلمين، عندها التفت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى عتاب حيث قال له (لو أعلم لهم خيراً منك استعملته عليهم) ما يعني أن أساس توزيع المهام في الإسلام واختيار المدير هو اختيار الأصلح، وحالة ظهور انحراف عن ذلك الصلاح إنما يُعد خيانة لله تعالى ولرسوله ولكافة المجتمع الإسلامي لقوله تعالى في محكم آياته في كتابه العزيز {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّه وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال - 27).
ويأتي المدير في النظام الإداري الإسلامي كي يشمل كل من تولى أمانة المناصب العامة سواءً كانوا (عُمالاً أو أموالاً) وكان يطلق عليها وقتها مسمى «الوالي أو العامل»، إذ تم وضع المبادئ العامة والقواعد الكلية للإدارة في الإسلام، وهي مبادئ وقواعد لا يُختلف تنفيذها أبداً باختلاف «الأمكنة أو الأزمنة»، كما تأتي قصة سيدنا موسى وشعيب عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، لتؤكد على مقدار الأمانة في تولي المدير لمنصبه ومهام عمله، فعندما اقترحت إحدى ابنتي النبي شعيب عليه السلام استئجار سيدنا موسى عليه السلام، للعمل مديراً لممتلكات العائلة وأموالها، فقد أشارت صراحةً إلى صفتين أساسيتين وهما «القوة والأمانة» وذلك في قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص - 26).
وفي قصة طالوت وجالوت المذكورة في سورة البقرة، جرى الحديث عن انتخاب طالوت ليكون قائداً لبني إسرائيل لمقاتلة السلطان الجائر، الذي أذل بني إسرائيل وأذاقهم أشد أنواع العذاب، فبعد زوال غبار الحماسة الجوفاء ومع تمايز الصفوف ووضوح أصحاب الرغبة الحقيقية في الجهاد من أولئك المدعين ذوي النفاق وأرباب الكلام لا الأفعال، جاءت ساعة تنظيم الصفوف وبناء الجيش الذي سيخرج للقاء الظالمين، وتمثلت أولى تلك الخطوات في اختيار القيادة الرشيدة الواعية، التي لها القدرة على توظيف القدرات وتوجيه الطاقات: فيقول تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة - 247) ونرى بجلاء ما أشارت إليه الآية الكريمة بضرورة تواجد شرطين أساسيين في الإدارة الحكيمة عند مواجهة العدو، ألا وهما «العلم والقوة».
وطالما كان الفساد الإداري يمثل أحد أهم مظاهر الإدارة السيئة، لذلك حرم الإسلام الرِشوة وما يتبعها من مظاهر «المحسوبية والوساطة» عند اختيار ولاة الأمر أو المديرين، فلا يصح أبداً أن يقوم الرجل لكونه طلب الولاية أن يسبق في الطلب، بل يكون ذلك بياناً للمنع، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن قوماً دخلوا عليه فسألوه الولاية، فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه) وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة (يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتُها عن غير مسألة وكلَّت إليها، وإن أعطيتُها عن غير مسألة أُعِنت عليها) (متفق عليه).
ما يؤكد مدى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم، على عدم تولية أحدٍ مسؤولية الإمارة أو الإدارة لمن طلبها، لأن طلبه هذا يدل على مدى حرصه على تحقيق مصالحه الشخصية، على عكس ما تبتغيه أمانة الوظيفة أو الإدارة في الإسلام، من ضرورة تحقيق منافع المسلمين ومصالحهم: ويقول تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء - 58)، وفي الآية الكريمة يأمرنا سبحانه وتعالى بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) (رواه الإمام أحمد وأهل السنن) وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الأفراد، وأولهم المديرون من حقوق الله عز وجل على عباده، من صلوات وزكوات وكفارات ونذور وصيام وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد.
وبما أن الموضوعية، أحد مبادئ الجودة في نُظم الإدارة الحديثة لاختيار المديرين فقد حذرت الإدارة الإسلامية، والتي وضع أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ خمسة وعشرين قرناً، من أن وجود مدير لا يتمتع بالكفاءة، يُعد من الأمور المحرمة، أو موافقة بلد، أو جنس ما مثل العربية أو الفارسية أو التركية ..إلخ، أو الرشوة يأخذها من مال أو منفعة أو دون ذلك من الأسباب، أو نصفه على الأحق أو عداوة بينهما.
والمتابع لسيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، يتضح له اهتمامه الشديد بمعايير الموضوعية والكفاءة لتولي الأمور وإدارتها، وأنه صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه رضوان الله عليهم تلك المبادئ وألزمهم بها، ما يظهر مدى رؤيته صلى الله عليه وسلم بأن يولى على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، والحمد لله أن بلاد المسلمين المملكة العربية السعودية تلتزم بمعايير الإسلام في اختيار المدراء، ما مكنها من أن تتطور وتتقوى كما هو مشاهد.