العقيد م. محمد بن فراج الشهري
شيء غريب ومذهل للغاية أن يتجول (المنطاد الصيني) في أجواء أمريكا أسبوعاً كاملاً دون أن تكتشفه وسائل الأمن والحماية الأمريكية، والأدهى من ذلك كله أن من كشف أمره مسافرون عبر الفضاء وليس الرادارات الأمريكية.. لقد كان الأمر كله برمته عيباً مخلاً وفضيحة كبرى لدولة تعتبر في مقدمة دول العالم قوة، وتقنيات، وعسكرة، لقد كان هذا الحدث عيباً فاضحاً للحكومة الأمريكية وجيشها، وما تملكه من تقنيات، سبب ارتباكاً واضحاً للسلطات الأمريكية ولرئيسها جون بايدن، ولكل المسئولين العسكريين، وكان قد حلّق المنطاد الصيني بدءاً من 28 يناير الماضي فوق أمريكا الشمالية، ليعبر من ألاسكا إلى كندا والولايات المتحدة، قبل أن تتخذ إدارة الرئيس الأمريكية جون بايدن قراراً بإسقاطه يوم السبت عندما أطلقت مقاتلة من طراز (إف22-F22) صاروخاً على المنطاد الذي سقط في سواحل ساوث كارولانيا، بسبب ما وصفته واشنطن بأنه (انتهاك غير مقبول من بكين) للسيادة الأمريكية، وكرر مسئول وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أن الصين استخدمت المنطاد (في محاولة لمراقبة المواقع الإستراتيجية)، في الولايات المتحدة، وردًا على سؤال من شبكة (ايه بي سي نيوز) التلفزيونية عما إذا كان يُعتقد أن جهات في الجيش الصيني أطلقت المنطاد عمداً، لتعطيل زيارة بلينكن، أجاب (بالطبع أعتقد أن هذا ما جرى)، ملاحظاً أن المنطاد كان قادراً على المناورة، ورفض تصريحات الصين أنه انحرف عن مساره، ولفت إلى أن المنطاد مجّهز بمراوح.. ولم تكن حادثة عادية بل كان عملاً متعمداً إستخباراتياً، ويقول المسئولون الأمريكيون إن الصين لديها طرقًا أكثر سرّية، وتطوراً لجمع المعلومات الاستخباراتية عن الولايات المتحدة، مثل شبكة أقمار التجسس الصناعية، وأوردت صحيفة لـ(جيش التحرير الشعبي) الاسم الرسمي للجيش الصيني أن التكلفة المنخفضة لاستخدام البالونات كانت أحد الأسباب التي دفعت الصين إلى نشرها بشكل أكبر، وكتبت أنه (استجابة للتهديد المتزايد الذي تشكله أنظمة الدفاع الأرضية لقوات الهجوم الجوي، فمن الضروري استخدام بالونات جوية رخيصة لإحداث تداخل نشط، وسلبي لقمع أنظمة الإنذار المبكر للدفاع الجوي للعدو بشكل فعّال، وتغطية قوات الهجوم الجوي للقيام خارج مهامهم، وليس هذا هو المنطاد الأول الذي ظهر في أمريكا فقد أعلن (البنتاغون) الجمعة أن منطادًا صينيًا آخر حلَّق فوق أمريكا اللاتينية.. والسؤال المهم واأهم هو كيف تسبح هذه المناطيد بكل أريحية في الأجواء الأمريكية دون كشفها، هل يعني ذلك عوار الجيش الأمريكي وسهولة اختراقه؟ أم تسيب حقيقي في منظومة القوات الأميركية المكلفة بالحماية الجوية، أو أن كل القوات في سبات عميق عندما تجول المنطاد في الأجواء الأميركية لأسبوع دون كشفه وكيف أن كشفه لم يكن عن طريق القوات الأمريكية، وأجهزة رقابتها الجوية، بل كان عن طريق مسافرين عبر الجو؟ لذلك كان حدثاً ينبئ عن خلل ما في المنظومة الدفاعية الأمريكية.. ولم يكن اختراق المنطاد الصيني للأجواء الأمريكية حدثاً عابراً أبداً في زمن يشتد فيه الصراع على زعامة العالم اقتصادياً بين بكين وواشنطن، فرغم تبرير الصين للواقعة بأنها بسبب خطأ تقني، ولا يوجد هدف عسكري أو سياسي لتجاوز المنطاد حدود دولة عظمى كأمريكا، فإن العمل الذي مارسته واشنطن بزيارة (بيلوسي) لتايوان يرجح أن يكون حادث المنطاد رسالة رد بانتهاك سيادة أمريكا، خصوصاً أننا نمر بمرحلة زمنية خطرة بالعالم، مع الاتجاه لتعدد الأقطاب وهو ما يضفي مزيداً من الحساسية على أي تحرك من الطرفين بأحداث مشابهة لن تكون إلا تدشينًا لحرب باردة، فالتنين الآسيوي وصل في سباق التسلح بين العملاقين لدرجة خطيرة ومتقدمة، وألغت أمريكا إمكانية الأمن المطلق كما أدركوا أن انتصارهم في الحرب الباردة، سيكون ذا جدوى، ولكن الصين دخلت مرحلة أكثر ثباتاً نحو الواقعية، والخطوات السياسية، وأدركت أن الحريّة ضرورية لإنتاج القوة، فمنذ سنوات عدة يحاول الغرب أن يستفز ذلك التنين الضخم، ولم يدرك أن له قدرات خارقة على التنافس وروح المثابرة لبسط نفوذه اقتصادياً، فكان لغزاً كبيراً تجلى فيه التفوق، واستمر بنقل التكنولوجيا الحديثة في جميع الصناعات الصينية، وأزمة المنطاد الصيني جاءت في أعقاب (تقرير سري) قدّم للكونجرس، الشهر الماضي، حدد حوادث محتملة لاستخدام أعداء أمريكا لتكنولوجيا جوية متقدمة للتجسس على البلاد، ولكن حكاية المنطاد ستبقى حكاية، وضربة قوية للجيش الأمريكي وكل أجهزة الرقابة الجوية والأرضية، ووصمة عار في جبين الجيش الأمريكي.
ويبدو أن القصة أو هذه الحكاية كأنها استدعاء لزمن الحرب الباردة الجديدة مع الصين, وبات التساؤل الذي يشغل كبار المفكرين الأمريكيين وفي معظم إن لم يكن كل مراكز الدراسات الأمريكية, وفي مقدمتها «راند» عقل البنتاغون بل وقلبه النابض «هل لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة آليات واضحة لإدارة مثل هذا الصراع على المدى البعيد؟». أم هل نحن أمام فخ «ثيوسيديس». سنرى وستبدي الأيام ما كان خافيًا...