الشرق الأوسط مهد الحضارات الإنسانية والفنون البديعة ونشأة الفلسفة التي هي أم العلوم، الشرق الأوسط الذي عرف الحضارة منذ أكثر من عشرة آلاف عام، تراجع كثيراً وكان يئن تحت وطأة التراجع المعرفي والفكري والفلسفي والفني لأسباب يطول شرحها ولكنها تتلخص على مدى خمسة قرون في الاستعمار التركي المتخلف للعرب، والذي كان يمثل الإسلام الثوري الذي كان مشروعه مرتكزاً على استغلال رعاياه لعسكرتهم من أجل التوسع الجغرافي لا أقل ولا أكثر.
وعندما تخلص العرب من الاستعمار التركي بدأت تظهر نواة عصر فني جديد، فظهر الفن في أزهى صوره، وتمثل ذلك في أساتذة كبار يتقدمهم محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وفيروز وحافظ إبراهيم وأم كلثوم والقائمة تطول. ولكن ظهر على المشهد العربي صراع جديد تمثل في القوميين العرب مقابل الإسلام السياسي، ورغم تناقض المشروعين اللذين مثلا أقصى اليمين وأقصى اليسار، إلا أنهما اتفقا على تدمير الفن كلٌّ بطريقته. حيث أقصى الإسلام السياسي الفن، واحتقر الفنانين، ونشر ذلك في الشارع العربي، بينما استخدم القوميون العرب الفن فيما يخدم مشاريعهم السياسية؛ فتم تكبيل الفن وأهله بشكله مقيت وأصبحوا يخضعون لرقابة صارم، وأصبحوا تحت رهن إشارة أصغر عنصر في الأنظمة القومية.
هذه المعاناة الفنية أجبرت الفن العربي الراقي على التراجع ليحل محله الفن المبتذل من الانتهازيين وتجار الفن الذين اتخذوا من الفن سلعة يصلون من خلالها إلى الشهرة والمال، فتراجع الفن رغم ظهور أسماء عملاقة على الساحة مثل الأساتذة محمد عبده وطلال مداح وصباح فخري وميادة الحناوي وماجدة الرومي والكثير من الفنانين العباقرة، إلا أنهم إما أنهم وقعوا تحت وطأة القوميين العرب أو تحت وطأة الشارع العربي الذي يطرب لفنهم ولا يحترمهم لأن الإسلام السياسي يسيء إليهم، تلك الظروف التي مر بها الفن العربي جعل الفن وصمة عار يوصم بها الفنان!
وفي أثناء تلك المعاناة بزغت شمس الفن العربي الأصيل من جديد من الرياض لتنعشه ولتعيده إلى الطريق الصحيح، يتقدم هذا المشروع الكفاءة السعودية العظيمة رئيس الهيئة العامة للترفيه معالي المستشار تركي بن عبدالمحسن آل الشيخ الذي أعاد كوكب الشرق أم كلثوم إلى الحياة لتغني على المسرح من جديد عبر تقنية الهيلوغرام، وليعيد جارة القمر فيروز للغناء من جديد بعد انقطاع أكثر من عشرين عاما، وليكرم فنان العرب محمد عبده، وليكرم صوت الأرض طلال مداح، في لقاء فني لكبار فناني العرب ليوحد الصف ويقصي الخلافات ويجعل جميع الفنانين في خدمة الفن تحت راية الرياض. ولتقام المتاحف لكبار الفنانين أمثال العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ.
ولم تكتف الرياض ومعالي آل الشيخ عند هذا الحد، بل استمر العمل على تقديم بيئة صحية لاحتواء أصوات شابة سعودية وعربية وتقديمها على المسارح الفنية السعودية، لنبدأ رحلة اكتشاف مواهب حقيقية ستقصي الفن المبتذل، وتعيد الحياة للفن الأصيل من جديد، بعد عقود سنتذكر ما يجري الآن، وندرك أنه بزوغ فجر جديد للفن العربي الأصيل، فشكراً للرياض، وشكر خاص لمعالي المستشار تركي آل الشيخ.
** **
- محمد المسمار