ما بين التقديس والتشخيص
في فترة من فترات حياتي سبحت في بحر العقاد، وكان مما يشدني هو استشهاده المتكرر بكتاب «الأبطال» لتوماس كارليل، والذي كان يرى فيه توأم روح من ناحية تقديس البطل عبر التاريخ، ومع ذلك لم أوفق لقراءة الكتاب إلى في مرحلة متأخرة من حياتي.
يمكن تشريح هيكل الكتاب إلى محاضرات ست، يتكلم فيها عن صور متنوعة للأبطال، والظروف التي كونت هذه الشخصيات، وما صاحب ذلك من طريقة التعامل مع البطل وفقاً للفترة التي ظهر بها البطل.
فالأبطال عامة يظهرون في لحظات معينة، ثم يأتي مجتمعهم بناء على «العروة المقدسة» حسب تعريف المؤلف، والتي تربط بينهم وبين هذا الرجل العظيم بالتعامل معه وفقاً لعقلية المجتمع وتطورها. ففي طفولة التاريخ كانت المجتمعات وبسبب جهلها ترى في أبطالها «آلهة» مثل «أودين» وهو فيلسوف إسكندنافي حسب كارليل قام قومه لفرط إعجابهم به بتأليهه واعتباره إلاهاً من آلهة السماء. وبعد ذلك تطورت عقلية البشر، وبدأت تنزل بإعجابها بالأبطال وتنزلهم من كونهم آلهة إلى أنبياء، فأتت صورة البطل كنبي، وكان أفضل مثل حسب كارليل هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذي يتحدث عنه باعتباره فيلسوفاً باحثاً عن الحقيقة، وأنه قارئ مطلع على فرق اليونان الجدلية وفي روايات اليهود.
وينتقل بعد ذلك في فكرة تطور العقل البشري ونظرته في التعامل مع الأبطال. فالبشرية لم تعد تنظر إلى الأبطال إلا أنهم كأفراد عاديين، فزمن الآلهة والأنبياء انتهى، وبقي الأبطال على صور متعددة ومتنوعة ومكررة، فهناك البطل بصورة شاعر «دانتي، شكسبير»، والبطل بصورة كاتب «جونسون، روسو، بارنز»، وأخيراً البطل بصورة القائد السياسي «كرومويل، ونابليون»، ومع تحليله الجميل إلا أن هذا الأمر لم يعجبه، فكارليل يفرض فكرة «تقديس البطل»، وكأنه يأسف على أن الناس لم تعد تقدِّر الأبطال.
فالأبطال عند كارليل هم من يكّون هذا العالم، والذي هو «ليس إلا نتيجة أفكار أولئك العظماء الذين اصطفاهم الله، وأرسلهم إلى الناس ليؤدي كل ما ناطته به القدرة الإلهية من الخير، فروح وتاريخ العالم إنما هو تاريخ أولئك الفحول وظني أنه مبحث لن يسعه هذا المقام».
من النقاط الجميلة التي تستحق الإشارة إليها دور التوثيق في تخليد الأبطال، فلكل أمة أبطال، لكن الفرق في التوثيق. فيقول متحدثاً عن الإسكندناف: «أولئك آباء بحارتنا رالي، وبلاك، ونلسون، لقد ذهب أولئك الأبطال وما ترنم بعظائم أعمالهم شاعر كهوميروس».
أخيراً...
الكتاب يعتبر من الكتب الأكثر من جيدة، يستحق القراءة والاطلاع، ولا غنى عنه لأحد في مكتبته.
ما بعد أخيراً...
عزيزي كارليل...
قد مدحك العقاد كثيراً...
لم أجد في كتابك «متعة»، ولكن... وجدت «فكراً»، و «معلومة»، و «مفاهيم».. وهذا هو الأهم.
** **
- خالد الذييب