للوهلة الأولى يبدو عنوان المجموعة القصصية «قطة سوداء وقصص أخرى» للقاصة فاطمة الحارثي؛ عنوانًا مسهبًا، تبدو فيه جملة «...وقصص أخرى» ضربًا من الحشو الذي تأباه بلاغة الاقتضاب التي تقتضيها براعة العنونة، إذ تنهض عتبة التصنيف الأجناسي على الغلاف بتحديد هوية المكتوب، ليُعلم بعدها بداهة أن «قطة سوداء» نص ضمن نصوص الكتاب، إلى جانب قصص أخرى تشكل مادة المجموعة؛ لكن قراءة الكتاب ستعيدنا مجددًا إلى عنوانه، بعد أن نكتشف أن العنوان على هذا النحو لا يخلو من قصدية كثيفة الدلالة، ينشطر معها وسم الغلاف إلى وحدتين دلاليتين؛ إحداهما «قطة سوداء»، والأخرى «قصص أخرى»، أي أن نص «قطة سوداء» وحدةٌ قائمة بذاتها أمام بقية النصوص التي تناسلت من وحي تلك القطة التي ظلت طوال الوقت في حديقة الذاكرة تهتف بالسرد وتلوح له، حتى أتت القصص من بعدها وبقيت هي الأصل والفاتحة.
ولأن كل قطة سوداء تموء في نص قصصي لابد أن تستدعي إلى الذاكرة قط «أدغار آلان بو»، الذي بات أيقونة سردية لا تحيل على النص ذاته فحسب؛ إنما تحيل كذلك على القصة باعتبارها فنًا شكلت تلك الكلاسيكيات فواتحه وعلاماته الفارقة، حتى بات استنهاضها يتجاوز التناص العابر إلى استحضار التجربة كلها للإفصاح عن شغف يضع السرد في الكفة المقابلة للحياة كلها، في ميزان الصراع الشرس مع الخسارات والغوائل التي تتقصى مباهج الحياة.
وإذ تذكر القاصة قط أدجار آلان بو صراحة في نص «قطة سوداء»؛ فإنها لا تكتفي بذلك بل تعمل على تعزيز تلك الدلالة في سائر نصوص المجموعة عبر آثار سردية شهيرة ظلت عنواناتها تلوح في السطور كضربات ساعة تعيد التذكير بالفكرة المركزية القائمة على ما يشبه المشاهد الاحتفالية بالسرد باعتباره الذاكرة، والملاذ، والوطن!
ففي نص «صدفة» تحضر إحدى روايات «هيمنغواي» دون إشارة إلى العنوان في انسجام مع حالة فقدان الذاكرة لدى بطلة القصة، بينما تنسجم القصة مع السياق العام للمجموعة في تدشين السرد ذاكرة بديلة حاضرة، تخفق عندها سطوة ألزهايمر!
وفي لحظة حالكة تبرز «فيرجينيا وولف» في نص «اركض للوطن الآمن» في امتداد للنسق الذي يعول على السرد باعتباره ذاكرة مرة، ومرة وطنًا بديلًا!
بينما «الحارس في حقل الشوفان» في نص «مقبض» يجسد آلية دفاعية تلوذ بها البطلة تجاه الظلم وكثافة الزيف: «كنت في غرفة المعيشة أقرأ الحارس في حقل الشوفان لسالينجر وبدأت في تدوين عدد المرات التي قال فيها هولدين كولفيد كلمة زائف».
ويتأكد ذلك كله، ويبرز السرد معادلًا موضوعيًا لكل فقد، ومتكأ في الهزائم؛ في هذا المقطع من نص «السماء لا تمطر رجالًا»: «لا أحد من المارة يسألني إن كنت أحتاج المساعدة.. في أيديهم كيس أو اثنان.. أما أنا فأشعر بالغنى وقد شطبت ما يقارب ستين كتابًا من قائمة مئة كتاب علي أن أقرأها قبل أن أموت، رغم أني ممتنة لأني وجدت نسخًا من دون كيخوتة، ذهب مع الريح، والشمس تشرق أيضًا، إلا أن عدم وجود لوليتا نابوكوف سلب شيئًا من نشوتي».
وفي الوقت الذي تتقاطع فيه نصوص المجموعة في الدفع بالسرد إلى خانة المواجهة ومناجزة انكسارات الحياة وخساراتها؛ تبلغ هذه الفكرة ذروتها في نص «قطة سوداء» الذي شق أفق الدلالة ليكون نقطة الارتكاز في المجموعة كلها، والثريا المعلقة في أفق العنونة، وفي مداراته تحلق بقية النصوص، في عمل يستبطن شغفاً فادحًا بالسرد كله، والقصة على نحو خاص.
ولعل ذلك الشغف الفادح هو ذاته المسؤول عن تلك الاستدراجات الواضحة التي راوغت بها اللغة كاتبتها لتستزل بها رشاقة السرد إلى إغواءات وملاحقات أفضت ببعضها إلى ترهلات تعكس كيف يمكن للانغماس في مذاقات السرد أن يشكل حجابًا يخفي عن أحداق الساردين بعض كمائن الشغف وإغراءات الحكي، التي تضرب جماليات السرد الوجيز في بعض مفاصل جاذبيته وقوته.
إن مجموعة «قطة سوداء وقصص أخرى» هي إشهار هوية، ورهان معلن عالي النبرة على القصة.. القصة وحدها.. قبل كل شيء.. وفي مجابهة أي شيء!
** **
- محمد الراشدي