د. شاهر النهاري
عرف الشعر منزلقان متنافران من التأطير لرفع وتنزيه الشخص بالمديح، والمبالغات، التي تصل إلى الكذب الصريح، وتشويه، وتصوير خصمه بالنقص مستخدما الهجاء سلاحا ينقض به على من يراه خصما له ولمن يمتدح، وبما قد لا يمت للحقيقة بصلة.
امتهان المديح يحتاج إلى شخصية متسلقة لا تخجل، وشحات مريض طماع لا يرى غير مصلحته، فيستغل قدراته الشعرية في الفخر والحماسة والسبك المميز للمعاني والصور، مدعمة بالتضخيم والكذب والرياء ودناءة النفس بما يهيله تملقا على شخص ومقام الممدوح، كونه يعرف أن لبديعه ثمنا سيناله بمجرد أن يهيله.
والهجاء يحتاج إلى شخص عدائي كريه ممسوح الجوف عن قيم الأخلاق، فإذا عادى فجر، ورغم دناءة أبياته إلا أنه يتمكن من جعلها بقدراته الشعرية والفنية حكما ولحنا وأنشودة تتناقلها الألسن، وتجري بها الركبان، وتصم المهجو بالعار إلى يوم يبعثون.
والشاعر المعتدل الخلوق العادل يقف في المنتصف، وهو برزانته حريص على تنوع أشعاره بالجماليات، وبما يبث السلام والحب، والأخلاق الحسنة، ودون أن ينزلق إلى أحد المنحدرين الملتهبين.
المديح والهجاء نتاج تركيبة نفسية أنانية معقدة، يعيشها من يحيطون بالشاعر، ويرددونها تمثلا، ويعيدون استخدامها على من يحبون أو يكرهون، وكم تصبح أيقونات مسامراتهم وفكاهاتهم، التي لا يخجلون فيها من أن يعيدوا مديحها أو شناعة هجائها مهما بلغت فيها فظاعة وكمية السباب، ومهما كان المديح تذللا وتملقا غير مستحق، فكأن قصيدة الشاعر وحسب مكانته، تصبح شهادة صدق مضمونة للممدوح، أو دليلا على انعدام مروءة تثبت في حق من هجاه وتلبسه طوال الدهر.
ركنان ثابتان بين أغراض الشعر ظهرا مع نشأة الصنعة الشعرية، سواء باللغة الفصحى، أو في انتثار وتشكل اللهجات في شتات الشعر النبطي والشعبي، متقدمان كما وكيفا على أغراض أشعار الغزل أو الفكر والوصف أو الفخر أو الرثاء أو الاعتذار، والتي لا تعطي نفس قدر الشهرة والشيوع، مثلما يلقاه شاعر المديح والهجاء في المكانة، وتصدر المجالس، وبما يخلقه لسانه الحاد من تخوف لدى الأفراد والقبائل، مرتعبين من عنف ما يمتلكه من أسلحة، قد تجعلهم أعلاما أو أضحوكات بين القبائل.
والمثال الأوضح على الجمع بين آثار المديح والهجاء تشكلت وتبلورت بأشعار واحد من أعظم شعراء العرب، وهو نادرة عصره أبو الطيب المتنبي، والذي كان صديقا وجليسا ومعينا ومؤازرا ومضخما وناصرا لسيف الدولة الحمداني لفترة طويلة من الزمان ظل فيها ينشد أجمل وأقوم أشعار المديح والفخار والملاحم، التي ترفع للثريا، حتى أصبح الشاعر شريكا ولصيقا لانتصارات سيف الدولة، وآلته الإعلامية، التي تسبقه للحروب بالرعب.
وكان كل ذلك يتم بتملق وأطماع ورغبات تدفع الشاعر للحصول على أكبر من القيمة العظيمة والرخاء والثروات، التي حصل عليها، فما لبث أن أيقن أن سيف الدولة الداهية الذكي المحنك الأصيل، لن يعطيه أكبر من حقوق درجة الشاعر بثقة الحاكم، الذي لا يشعر بالنقص في داخله، وكون ثقته بأن ما يناله من مديح لن يجعله يرضخ للمادح، فأرتحل المتنبئ إلى مصر، وحاول أن يزاول نفس عمليات مديحه للحاكم كافور الإخشيدي، والذي يعرف الجميع بأنه خارج من العبودية، فكان المتنبئ يتوقع بل ويحلم أن يمكنه مما لم يبلغ عند سيف الدولة، نظرا للفوارق في الأصل والعترة والتاريخ والدهاء.
ولكن توقعات المادح لم تنجح ثانية هنا، فلم يلبث أن غضب غضبة ألهبت المدن والفيافي، حينما قلب أسطوانة المديح على وجهها القبيح، وانهال على كافور بأسواط أشعار هجاء واستحقار قبيحة ما زالت تسير بيننا بعد القرون ولو همسا، وتسيء ليس فقط إلى كافور، ولكن إلى كل شخص ملون مهما بلغت حريته.
الشاعر المادح الهاجي ومهما بلغت قوته، ومهما كانت أصالته وممتلكاته، يظل لسانه يحكه، ليكتب مديحه ونفاقه للمساعدة على بناء صرح شخص يخصه بالمديح، ويصنع من المعتاد عسلا، أو مسح إنسان يمتلك المزايا لمجرد أنه لم يفتح له المجال، ولم يذعن ويقطع لسانه بالعطايا، ما يجعله ينال منه أقذع الأبيات.
شاعر المديح اليوم لا يجد حرجا في أن يدور على القصور والمناسبات، ويخرج من جيبه أوراقه الرثة، وقد غير اسم الممدوح، فيكيل عليه من الرخيص، والحضور بمجاملاتهم وكذبهم يهزون رؤوسهم نفاقا بكل مميزة يذكرها، ويعيدون آخر الأبيات تماشيا مع اللحن، حتى ولو كانوا يتهامسون بينهم بأن الممدوح لا يستأهلها.
أما شعراء الهجاء فأصبحوا يحرصون على ألا يصرحوا بهجائهم لأشخاص بعينهم خشية قوانين تجريم التعدي وحقوق الإنسان وتجريم التعدي الحديثة، وإمكانية تقديمهم للقضاء، ولكنهم يظلون يتحايلون ويكتبون بالتلميح واللمز، ودون ذكر الأسماء مباشرة، ولو أن المتضرر بالهجاء ومن هم حوله يدركون من المقصود.
الشاعر الممتهن للمديح أو الهجاء مصاب بأمراض نفسية ومجتمعية، فيستصغر ذاته، ويتلذذ ب التعدي على الغير، وإن خشي الوقوع في المحظور، غير الواجهة وقلبها إلى هجاء عدو أجنبي أو شخصية تخيلية، أو كيان أو دولة بأكملها، لينفث في ذكرها أشعاره المسمومة، مدعيا أنه لا يشخصن الأمور، التي ربما لا يتمكن من قولها ضد أشخاص بعينهم!