سهام القحطاني
وصلتني رسالة من قارئ كريم تعليقا على مقالات «جدلية الزمن» يقول «ليه يا أستاذة ما تكتبين شيء نفهمه» وكان تعليقي وأنا أقرأ تلك الرسالة «وجه مبتسم».
ولن «أتبجح» على هذا القارئ الكريم كما» تبجح» أبو تمام على سائله عندما قال له لماذا لا تقول ما يُفهم فكان رده ولماذا لا تفهم ما يقال.
ولأجل خاطر هذا القارئ الكريم قررت هذا الأسبوع أن أكتب مقالة ستكون «سهلة لينة الحرف والمعنى» أو هذا ما أتمناه؛ فالأسلوب من أسوأ عادات المرء، لأنه؛ لا يحظى بروح التمرد.
هل هناك علاقة شرطية بين تعقد الحياة وتشابك تفاصيل علاقاتها وصراعات تلك التفاصيل وعزوفنا عن بصمة الرومانسية في الحياة؟ أو على الأقل هذا التبرير الذي نسوقه كحجة «مسمار جحا» على «جفافنا الوجداني».
ورأس كل رومانسية هو «اللفظ» سواء في مستواه الكمي أو الكيفي.
وقد يستهين الكثير بغياب اللفظ الجميل كمكون من مكونات بصمتنا الرومانسية في الحياة، باعتبار أن اللفظ الجميل ليس بالضرورة قيمة رئيسة، وأنه من ضمن الثانويات غير المؤثرة في حاصل أنماطنا الحياتية، واتجاهاتها وظواهرها.
وهذا الرأي غير صحيح؛ سواء في كون اللفظ الجميل لا يمثل قيمة رئيسة أو أنه من الثانويات غير المؤثرة في نمط حياتنا المعيشية.
ولاشك أن غياب اللفظ الجميل في تعاملاتنا هو أمر غير محمود في مجمله و تفصيله؛ لأنه يترك «للبذاءة اللفظية و الجافة و القاسية» السبق في ميدان معاملاتنا التخاطبية اليومية التي نسمعها ونحن في الطريق والشارع و المنتزهات و محلات التسوّق، و يُشعل الصراع بين الأفراد و يحشد غضب العدوات بينهم، و يجعل تلك البذاءة أسلوب حياة يُسيطر ظله الحاضر في أمزجتنا و مشاعرنا، فكم من جريمة بدأت سطرها الأول بكلمة تلحفت بثوب الشيطان.
إن اللفظ هو «ظل السلوك» و «السلوك مرآة الفكر»،والتعوّد على اللفظ الموحش والجاف و الخشن هو حاصل طبيعة التفكير الذي ينعكس بعد ذلك من خلال السلوك.
لذا ربط سقراط بين «قيمة المرء وكلامه» فقال عبارته الشهيرة «تكلّم حتى أراك».
فاللفظ لا ينحصر في كونه وسيلة تخاطب بل هو مركز تشكيل العلاقات الإنسانية بتوصيفاتها المختلفة، ومن أهم أسباب التعايش السلمي بين الأفراد.
وفي ديننا الحنيف الكثير من التوجيهات التي تؤكد على القيمة الإنسانية للفظ في شيوع المحبة و السلام و الألفة بين الناس سواء مسلمين أوغير مسلمين، ففي السنة النبوية الشريفة من مؤشرات المسلم الحقيقي «أن يسلم الناس من لسانه» فيترفع عن أذية الناس بلسانه بأي شكل من الأشكال من بذاءة و غيبة و نميمة وما يدخل في هذا الحكم من لفظ يهين الآخر، أو يقلل من كرامته الإنسانية أو يُحرض على أذيته، ولذلك جاء التصريح النبوي الشريف الواضح بأن «حصائد الألسنة» قد تكون مهلكة متى ما سلكت طريق الشرّ.
فالكلمة «الخيّرة» هي من «رضوان الله» التي تعلو بصاحبها «إلى أعلى العليين»، و الكلمة «السيئة» هي من «سخط الله» التي تهوي بصاحبها «إلى أسفل السافلين»، كما تُعلّمنا السنة النبوية الشريفة.
إن استخفافنا بقيمة الكلمة وشيوع فحش اللفظ في مستوياته ودلالاته المختلفة و التعايش مع هذا المسار باعتباره حاصل طبيعة الحياة اليوم، غيًب عنّا الكلمة «الحسنى» التي تُحول العدوات إلى محبة ،و الكلمة «الطيبة» التي تزرع جذور المحبة لتنمو الألفة حتى عنان السماء.
الكلمة «السحر الحلال» التي من المفروض أن تعتلي قلب طاولاتنا التفاوضية لحلّ مشكلانا الإنسانية ونزاعتنا اليومية،فالكلمة الطيّبة قانون محبة بين الناس.
لكن ما يحدث اليوم وخاصة في ظل «الشخصيات الافتراضية» أن الكلمات تحولت إلى مشانق نحاكم بها من نشاء دون ضمير، وأسواط نجلد بها من لا نتفق معه، وجيّرنا كل بذاءة لفظ إلى ذمة «حرية الرأي»، وكأن تلك الحرية لا تتحقق إلا بالشتائم، والحجة لا تقوى إلا بفحش اللفظ، فتفننا في أقذر الكلمات لنثبت خطأ غيرنا كبديل للبرهان، حتى أضحت «فتنة قول»؛ فتراجع صاحب الحق ليحمي طرف ثوبه من «وسخ الفحش» و تسترت ترنيمة اللفظ الجميل بالظل خشية خدوش حدّة السطوع ،ليتصدر اللفظ الجارح الفاقد للذوق و الرقي يومياتنا، فتتسع مساحة الصراع و تضيق مساحة الألفة و تختنق ترنيمة اللغة الجميلة بدخان فحش الكلام.
فما ذواتنا أيها السادة سوى كلمات، والكلمات إما أن تكون «وحي رحمة» أو «وسوسة شيطان»، فاختر منهما من يمثل ذاتك.