د.سعد بن سعيد الرفاعي
من قدر له مصافحة ديوان (ما التبس بي.. ما غبت عنه) للشاعرة الدكتورة مستورة العرابي فحتماً سيصاب بدوار الأعمال العميقة التي تتأبى على الترويض الفكري إن جاز التعبير من أول وهلة، وحتماً سيضطر إلى معاودة القراءة مرة أخرى بعد الفراغ منه؛ لأنه باختصار يصدر عن وعي شفيف، والمعرفة أساس الوعي كما يقول تركي الحمد، والشاعرة في هذا الديوان ذات واعية بعملها رغم استغراقها في إبداعها، نتلمس ذلك في عتبات الديوان الأولى بدءاً من العنوان الذي سيجعلك تقف متسائلاً عمَّا التبس بها؟ وعمّا غابت عنه؟ ولن تتجاوزه دون أن تدون حضور الذات عبر ياء المتكلم (بي) وتاء الفاعل (غبتُ) لتعيد السؤال مرة أخرى باحثاً عن إجابة لما التبس بها ولما غابت عنه، ثم إنك متى انتقلت إلى قائمة المحتويات ستجد النصوص أدرجت تحت عناوين عريضة (أنا وردة التلويح أذهب في العناوين الشهية أرتقي وجعي وأفصح عن جلالي أنا سرية الأشياء
تاريخ انتهاء النار في جسدي) والعناوين الأربعة العريضة هي؛ الأول (في البدء تبتل الجهات) والابتلال غيث ومدد للأرض بعد انتظار وتباشير العشب والاخضرار، وإعلان لبدء دورة حياة مليئة بالإصرار، وأدرجت تحت هذا العنوان خمسة نصوص، أما العنوان العريض الثاني فكان (أنثى تتهجى ملكوتها) وكأنما كانت هي الأنثى التي ولدت بعد ابتلال الجهات، فنمت وترعرعت حتى أضحت أنثى تتهجى عالمها، والتهجي قراءة والقراءة طريق المعرفة والمعرفة بوابة السؤال والسؤال مفتتح الوعي ،وأدرجت تحته ثمانية نصوص هي الأكثر بين كل العناوين العريضة، أما العنوان الثالث فكان (ارتباك على وتر مشدود عمداً) والارتباك مناف للاستقرار، وشد الوتر عمداً دليل وقوع فعل لفاعل غائب أو مغيب لا فرق، والأمر يفضي إلى مرحلة صراع، وأدرجت تحته سبعة نصوص لتأتي في المرتبة الثانية، أما العنوان العريض الرابع فهو (تلويح للآخر في المرآة) والوعي بالآخر طريق للوعي بالذات كما يذكر علي حرب، والتلويح تعبير عن المحبة والسلام والتصالح مع الذات أولاً (في المرآة) ومع الآخر في مرآة الوعي،(وكم مرة قلت: هذي أنا.. مراياي ظلي، وحزني جميل) وأدرجت تحته أقل عدد من النصوص وهي أربعة نصوص، وما سبق كان عملاً واعياً للمحتوى الذي ولد في مرحلة الإبداع المتأرجحة بين الوعي واللا وعي، ثم إننا إذا انتقلنا إلى عتبة الإهداء سنجد نصه (إلى القصيدة /الأنثى.. لعلي أجد على النار هدى .......مستورة) والإهداء بهكذا صيغة يعبر عن ذات مستلبة ترغب الشاعرة في استعادتها أو استنهاضها من خلال القصيدة التي جاءت معادلا للأنثى، فاستعادة القصيدة من خلال الكلام استعادة للأنثى وكل ذلك بحثا عن الهدى والرشاد الذي تبحث عن وجوده من خلال النار (أنثى) نار القصيدة.. نار المعرفة .. نار الوعي، ثم تذيل الإهداء باسم (مستورة) ومستورة دال على أن استعادة أو استنهاض الأنثى لا يكون إلا من خلال أنثى، ولايغيب عن فطنة المتلقي هذا التوظيف الذكي لاسم الشاعرة (مستورة) فالاسم مؤنث بالعلمية وبتاء التأنيث كذلك فهو دال على الجنس، ومستورة يعني محجوبة، فالستر هو الحجب،والبحث عن هدى من قبلها يعني هتك الستر وشق ثوب الصمت واجتراح الكلام، ومستورة قد يكون صفة لأي امرأة مستورة، وفي هذا تعميم المعضلة، وشمولية الخطاب، فيما جاءت العتبة الأخيرة جزءاً من نص (لم تمتحني قوة في الأرض) على الغلاف الخارجي للديوان (لي أن أقول كما أريد وليختياراتي إذا ضاق الكلام المسترد بفتنة التأويل، لي ورقي القديم على جدار الأمنيات المستحيلة.. لي من المعنى اقتراح ... جاملت في الطرق السريعة من رأوا وجعي ولم يتقمصوا دور الصداقة من أضأت لهم ضلوعي فاسترابوا من دمي ودمي تفاصيل الخسارة والجراح) معبرة عن أزمة الأنثى التي تملك قوة لم تمتحن بعد،لذلك نجدها تبوح في هذا النص الذي تحلينا إليه عتبة الغلاف (لم تمتحني قوة في الأرض
قلبي سورة الإنسان
مملكتي الفضاءالأنثوي
وقبلتي شعري
ولكني أميل مع الرياح) لتختم قائلة (والرضا قدري الجميل)
ثم إننا متى شرعنا في قراءة النصوص؛ فسنجد مفتتح أول نص (أطل على الوطن الأخضر) المندرج تحت العنوان العريض (في البدء تبتل الجهات) سنجد أول عبارة على شكل سؤال (ماذا أريد من الكلام
إذا اتكأت على جدار الوقت
منذ الأخضر الخفاق
حتى ماتجذر في من معنى الوطن)؟
والأخضر الخفاق يعيدها إلى مرحلة ابتلال الأرض بغيث السماء .. التبرعم والنشأة، والأخضر الخفاق معنى مزدوج لوطن على الأرض وفي الروح، ونشوء المعنى متدرجا حتى وصل إلى التجذر، لتواصل البوح
(ماذا أقول لفكرة تجتاحني
فأنا الحكاية كلها)
إنها قضية وجود ..قضية الأنثى وحقها في الحياة الطبيعية كما تصورها الشاعرة
وعندما ننتقل إلى العنوان الثاني العريض ( أنثى تتهجى ملكوتها ) نجدها في نص (لاتشبه الأسماء ) تفصح عن الأنثى وقيمتها في الحياة:
(أنثى تدور الأرض حول مقامها
تحنو على الدنيا بخطو غمامها
....... .......
في روحها كل الكلام قصائد
ما أجمل الإنسان وسط كلامها
تقف الجبال مهابة لجلالها
ماالعقل إلا كبرياء تمامها!)
ثم تقدم نفسها عرابة للحقيقة والمعنى المنشود:
(ما لذ لي
إلا اقترابي من سلام النار
من نار السلام
وأنا وحيدة مذهبي
حيث المذاهب جمرة أولى
وظن لايلام)
وفي خضم هذا البحث المضني عن الذات الغائبة تبوح لـ(نافذة تطل على الليل):
(ماذا تقول لنفسها امرأة
تغير في المرايا وجه قصتها
مرارا
كي تميل إلى اليقين)
وعندما تدلف الشاعرة إلى نصها محمومة بحمى القصيدة في (سلام على الحمى) يتجلّى بوحها:
(...كلام غامض التأويل يكفي
ليقرأ بين عينيك الكلام
بلا عنوان ياقلبي سنمضي
وقد نمضي وفي الروح اتهام
هم اختاروا غيابا دون عتبى
وهل يشفى من العتبى حطام؟
بلا ذنب يضيع العمر مني
كأن أنوثتي وجع مقام)
ولأنها تهفو إلى الوئام وتنزع إلى الصلح نجدها في القسم الرابع من الديوان (تلويح للآخر في المرآة تقف متسائلة في نص (هل ينتهي هذا الطريق ):
هل ينتهي هذا الطريق؟
....
تلك الرسائل في دمي تخشى احتمالاً واحداً
أن نستعد ولا نطيق
كتبنا في الشتاء ضلالة
فمتى الضلالات الشهية تستفيق؟
الماء لم يخسر براءته
التكتم لا يغير في الحقيقة أي شيء
ضعفنا جداً عميق
لن ينتهي هذا الطريق
لن ينتهي هذا الطريق)
وهنا نجدها تصالح بمنحى التسليم السلبي بالحقيقة القائمة مجيبة في مختتم النص على مفتتح سؤاله بعدما شخصت واقع الحال!
لتختتم النصوص بـ(نار الكلام)
(لاحزن بعدي ولا أسرار تسبقني
أنا الغياب الذي ماقال لي: قولي
تكسرت في المرايا كل أسئلتي
وآثرت ذكرياتي مس تخييلي
منذ انقلبت على الأوراد أغنيتي
بسيطة وكلامي نار قنديلي
أسير في وحشة الأوراق مصغية
إلى اليقين الذي يدنو ويصغي لي
لأن أنثى تجلت في فانسكبت
باسمي تخليت عن أسباب تأجيلي)
ويشكِّل البيت الأخير الذي جاء ختاماً للنص وللديوان إجابة على مفتتح أول جملة في نصوص الديوان (ماذا أريد من الكلام)؟
فهل اتضح بعد ذلك ماالتبس بها؟ وهل وقفنا على ما غابت عنه بعد الالتباس؟
وأخيراً؛ فالديوان جدير بقراءات أخرى لما تمتلكه الشاعرة من روح تروّت بماء الشعر الحق، فتمكنت من معانيه وقوافيه وعبرت عن قضيتها / الأنثى بصدق وعمق ووعي لافت.