حين لم يعد بوسعه الدفاع عن قريته الصغيرة، وعن خصوصية ساكنيها المنتهكة، حين لم يعد بوسعه الصمود أمام هذا الزيف المصطنع من الغرباء الزائرين ونفاقهم حتى في مشاعرهم نحو أبناء قريته الصغار.. هاجر بعيداً وترك خلفه كل ما له صلة بالقرية، وبعائلته.
رحل كي يحمي الشيء الوحيد المتبقي له، رحل ليحمي كرامته التي لن يسمح لزائر أو مصور أو متبرع أن يسرقها منه.
واستقر في المدينة، المدينة التي كان يكره، المدينة التي لم يكن يفكر أبداً أن يطأ بقدميه فيها لأن القرى أصبحت معلماً للفضوليين، أصبحت تعج بالسياح وذلك لكي يروا ما تفعله الطبيعة بهؤلاء، ما تصنعة الجبال من صلابة وقوة، مَن تخبزهم الطبيعة وتكويهم الشمس، ويعوزهم المال، دائماً يعوزهم المال.
ولكن هذه المرة على الأقل، كان سالم يحمل في صدره ما بقي له من كرامه ظل أشهرا عدة يراقب بصمت ما تفعله المدينة بالبشر، وفي صدره يئن صوته الذي قد نسي، وتحولت الأشهر لسنواتٍ وسنوات دون أن يدرك.
ولأن اللسان أثقل من أن يتذمر ولأن العين لا تحتفظ طويلاً بما تراه
كان قد كتب على طرف إحدى الجرائد: «أصبحنا نردد الكلمات ذاتها، نقرأ الكتب ذاتها ونشاهد الأفلام الرائجة باستمرار على التلفاز ونتفليكس وشاهد وكل ما له صلة بالسينما.. والآن نقف في صفوف وصفوف ندافع بحب عن وطننا ومجتمعنا وبيئتنا وغذائنا وأطفالنا الصغار. جميعنا الآن نبغض العنصرية، نحارب الظلم، نحافظ على تقاليدنا وديننا وكلمة الحق فينا.. جميعنا نحلم بمستقل أفضل نسعى ونجتهد للحصول عليه ونرفض رفضاً تماماً التنمر وكل ما له صلة بالعنف الجسدي واللفظي ونسعى جاهدين لرفع المجتمع إلى أعلى درجاته الإنسانية
بقيمته وأخلاقه ونزاهته وإعادة تأهيله وتربيته، نبذل ما في وسعنا لا لأنفسنا فقط بل للقادمين من بعدنا، ونكون مثالاً يحتذى به لمن هو آتٍ بعدنا.
فلنقف الآن قليلاً وجهاً لوجه مع أنفسنا. لا أحد غيرنا هُنا
فمن مِنا يُخل بتلك القاعدة؟
من يترأس هذا الدمار، من يشعل شرارة الحقد فينا
من يتنمر ويتمرد ويفعل كل ذلك الخراب من حولنا
من هو المتمرد! ما دامت المثالية هي ما نسعى إليه
ما دام التطور السليم هو ما نسمو إليه
كُنت قد بدأت ألاحظ نمواً ثقافياً ملحوظاً في جيلنا هذا لا أحد يكاد يخلو أو ينفذ بجلده من الحداثة، فهي طاغية لا محالة حتى آباؤنا وأمهاتنا مرت عليهم هذه الحداثة
حتى أجدادنا أصبحوا يضعون قلباً لكل مقطع يضحكهم ويتشاركونه بمتعة وخفة فيما بينهم.. أي نجر الهواتف هنا وهناك حيثما قعدنا وأجد من حولي صغاراً وكباراً يتحدثون عن تطوير الذات بشراهة وانتصار ويتبادلون المعلومات والأساليب والطرق التي تساعد في طرد الأفكار السلبية، يتحدثون عن بؤرة السلام وتأثيرها على ثقة الشخص بنفسه وبقدراته وبتنميتها وتهذيبها باستمرار، عن هالته التي تحيط به ومقدار قوته ونقاط ضعفه فيبذل كل مجهوده حتى يصل إلى ما يريد من راحة، حتى يمحو كل أثر من طفولته التعيسة فلا يبقى له منها سوى ما يدخل الأنس على قلبه ويستحق أن يتذكره ويرويه.
رأيت كيف يتحول الإنسان من لين، هين، هش وضعيف، إلى صلب وقوي في تقدمه نحو حلمه وفي تقبله لواقعه، وكيف ينشغل المرء بنفسه دون سواها وبعالمه بعيداً عن الآخرين، بعيداً عن الساخطين من الحياة. وكيف يزيل ترسب الكلمات الخادشة لقلبه عنه فيغسله ويقوم بتهيئته من جديد، خالياً من كل الأحزان التي حملها بداخله من الماضي ومن جميع مراحل طفولته القاسية إن كانت كذلك. ويعمل على حماية جسده المشاعري من الوقوع في الأخطاء. رأيت كيف يُصبح الطفل طليق اللسان فصيح القول ولا يعيقه شيء عن قول الحق فيجادل الكبار حتى يدحض مقولات خصمه بالَّتي هي أحسن.
فيأسرني هذا، ويدهشني ما نحن فيه من تطور وعلم وثقافة واسعة.
ولكن عندما أعود قليلاً إلى الوراء لا أجد أي نفع من كل ما يجري، لا شيء يتغير وكأن ما رأيت هو محض خيال وكأن ما لمست هو سراب صيف، فما زالت الحرب قائمة، والأطفال يموتون برداً وجوعاً هنا وهناك.
ما تزال بذرة العنصرية موجودة في قلوبنا شئنا أم أبينا لكن هناك من يُخمدها ويدفنها. وهناك من يسقيها لتُصبح ظاهرة للعيان ويفتخر بها.
ما إن نتخلص من شيء حتى يظهر آخر (الحقد، الكراهية، الحسد، الكبرياء، جنون العظمة، فخر الحداثة، سباق الشهرة والسعي وراء المال دون هدف واضح). وما يعذبني الآن هو ما لم أستسيغه أبداً، وهو فكرة إسعاد الفقراء وتصوير تلك النظرة في أعينهم، الانكسار، الابتسامة، الدموع، حبس المشاعر، انتفاضة الجسد.
فتلتقطها عينا المصور بنهم وينتصر لتحقيق أعلى المشاهدات فهو أسعد فقير وأعطى مالاً لهذا وسد شق الجدار لذاك، أوى يتيماً وأطعم جائعاً.
جميعها هناك موثقة، مصورة وموجودة للمشاهدين كي يتأثروا لهذا الفعل العظيم، لهذا العمل الكريم.
لا، وألف لا.
لا يجب أن يرى الإنسان عُري الآخرين. فالمشاعر أيضاً لها حشمتها ولا يحق لنا أن نراقب كي نبكي إنسانيتنا فنحن لسنا أهلاً لها نحن نراقب لنستحضر تلك المشاعر فينا، لنشعر بأننا إنسانيون عن حق وهذا ما قد أولده الله فينا بالفطرة لكننا جُردنا منه ونسيناه وأصبحنا نعيد خلقه بتلك المشاهد.
نحن نتقدم أجل ولكن ما يزال تقدمنا هذا مليئًا بالثغرات التي لم ولن تُسد ورُبما يظل هذا هو الحال ليبقى العالم في توازن دائم ما بين الخير والشر، الأسود والأبيض، الحزن والفرح.
** **
- علا الحوفان