ويليام وايت - مجلة «ريدرز دايجست» الصادرة في شهر يوليو 1947
عندما كنتُ أرقد في مستشفى (نيويورك) مؤخّراً، كان مريض أسمر يُدعى (جونز) يجلس في سريره يوماً بعد يوم، بينما كانت عيناه معصوبتان بإحكام. فقد فقد البصر تماماً في إحدى عينيه، وكانت الشبكية منفصلة في العين الأخرى وقد أجريت لها عملية جراحية دقيقة نتائجها غير مضمونة، وقد أخبر الأطباء المريض بأن نسبة نجاح العملية وفرضية احتفاظه ببصره في أحسن الأحوال هي 50 - 50 ، ولن تكون معرفة النتيجة ممكنة إلا بعد إزالة الضمادات بعد ثلاثة أو أربعة أسابيع من إجراء العملية.
في العادة تقضي الممرضات وقتاً طويلاً في مثل هذه الحالات في محاولة طمأنة المرضى ورفع معنوياتهم، ولكن (جونز) الذي كان في الأربعين من عُمره كان هادئاً ومهذّباً ومنشرح الخاطر بطبعه من البداية، ويقول: «أنا أعمل في محلّ لتجليد الكتب وسأعود لعملي»، ثم قال معترفاً بالواقع: «ربّما لن أعود بكامل قوّة بصري، ولكني سأكون راضياً إذا بقي لي ما يكفي من البصر لأتدبّر شؤؤني»، ثم تابع: «أنا بالطبع اتطلّع باهتمام إلى اليوم الذي ستُزال فيه الضمادات، ولكني لا أعّلق تفكيري الدائم في ذلك اليوم بل أحاول أن أعيش حياتي بكلّ تفاصيلها، لأنك عندما تعيش مهموماً تفكّر فيما سيحدث بعد أسابيع، فستغيش حياة قلقة مضطربة».
قبل عشرة أيام من الموعد المقرّر لإزالة الضمادات عن عينيّ (جونز)، أُدخل مريض مُسنّ يُدعى (كوركن) إلى إحدى الغرف الخاصّة في المستشفى، وكانت حالته المرضيّة مشابهة لحالة (جونز) تماماً، لكنه كان قلقاً ومتشائماً على الدوام. ونظراً لثرائه فقد خُصِّصت له ثلاث ممرضات في الأيام الأولى للعناية التامّة به، ولكن لم تكد تمضِ هذه الأيام حتى أُصيبت الممرضات بالإرهاق الشديد بسبب شكواه المستمرة ومتطلبّاته التي لا تنتهي؛ وليس أسوأ من مُمرضّة تُصاب بالاحتراق الوظيفي.
تحدّث (كوركن) عن بيت ريفي يملكه، لكنه اشتكى من أنه لا يتوقّع أن يراه بعينيه مرّة أخرى، وكان سعيداً على الأقل لأنه ليس لديه عائلة، فهو لا يريد أن يُحمّلهم مشقّة رعايته والاهتمام بشؤونه وهو كفيف البصر..! واستمر على هذه الحال من التألّم والضجر طوال الوقت، على الرغم من محاولة الممرضات الحثيثة تحسين مزاجه وإسعاده.
في أحد الأيام طرح طبيب شابّ على إدارة الجناح فكرة أن يتحدّث المريضان مع بعضهما البعض، قائلاً: «ربما التقط (كوركن) شيئاً ولو قليلاً من عدوى تفاؤل وانشراح (جونز)»، لكنه أُجيب بالخوف من أنه ربما يحدث نقيض المطلوب، فتنعكس كآبة (كوركن) على نفسيّة (جونز) فتوهن من عزيمته. فاعترض الطبيب على ذلك الاحتمال بأن: «لا شيء يمكن أن يُحبط من معنويات رجُل مثله»!
وعلى ذلك قامت إحدى الممرضات بمُهمّة التحدّث إلى (جونز) بأمر (كوركن) قائلة: «ربما يكون حديثك معه باعثً على تقوية أمله، وهذا بالطبع راجع إليك، إذا كنت ترغب حقّاً في التحدّث إليه».
وبدون أيّ تردّد، أجاب (جونز) بأنه سيكون سعيداً ببذل كلّ ما يستطيع من جهد في سبيل ذلك.
وبدورها أخبرت الممرضة (كوركن) بالأمر قائلة: «أن هنالك رجلاً في الجناح مصاب بنفس حالتك، فإن رأيت مقابلته فربّما وجدتم حديثاً مشترَكاً تتسلّون به وتقضون بعض وقت الفراغ خلاله».
وافق (كوركن) على الفكرة، وإن كان بيأسٍ من جدواها، قائلاً: « أحضري الرجل إلى غرفتي، فربّما نبدأ سويّاً في تعلّم القراءة بطريقة (برايل)»!!
ثم سأل: «كم بقي له من الوقت لمعرفة نتيجة عمليته الجراحية»؟
فردّت الممرضة: «أربعة أو خمسة أيام».
فردّ بمرارة: «أنه محظوظ، فهو على الأقل سيعرف بالأخبار السيئة قريباً جدّاً»!
قامت الممرضة بدفع (جونز) على كرسيّه المتحرّك إلى غرفة (كوركن) وعرّفت الرجلين ببعضهما، ولم تمضِ أكثر من خمس دقائق حتى كانا يتجاذبان أطراف الحديث عن همومهما المشتركة، وحالتهما المرضيّة وتجربتهما في معاناتها، وتعامل الأطباء معهما ..الخ.
تُرك المريضان لوحدهما لمدّة ساعة، وعندما عادت الممرضة لاصطحاب (جونز) إلى سريره، وجدت (كوركن) مرتاحاً من المقابلة ومستمتعاً بالحديث.
وفي الممرّ سأل (جونز) الممرضة: «كيف كان أدائي؟ لقد حاولت أن أجعله ينسى وضعه البائس ويتذكّر الأشياء الجميلة التي سبق أن شاهدها وأحبّها.. وهذا ما أفعله بنفسي دائماً».
في الصباح التالي وحالما انتهى (كوركن) من تناول إفطاره، طلب مقابلة جونز مرّة أخرى، ومنذ ذلك الوقت أصبح الرجلان يجتمعان ببعضهما معظم الوقت في الصباح وبعد الظهر، وكثيراً ما كانت تُسمع جلجلة ضحكاتهما قادمة من الغرفة.
في اليوم الذي سبق إزالة الضمادات عن عن عينيّ (جونز) ، استدعى (كوركن) إحدى الممرضات وقال لها: «أنا سعيد جدّا أني قابلت (جونز) وأشعر أنه كأنه صديق قديم، فحديثه يملأ النفس بالسعادة والتفاؤل، فماذا قال الأطباء عن حالته»؟
فردّت الممرضه بأن: «لديه فرصة جيّدة للشفاء كفرصتك أيضاً».
فقال (كوركن) باهتمام: «لديّ إحساس قويّ بأن نتيجته ستكون ناجحة».
في الصباح كان يبدو على مظهر (جونز) الهدوء والثقة مثلما كان دائماً، ولكن (كوركن) هو الذي كان متحفّزاً. وعندما عاد (جونز) إلى الجناح بعد إزالة الضمادات، كان مستنداً على ذراع الممرضة، وإن كان بإمكانه رؤية طريقه بدرجة باهتة.
طلب (جونز) بعد أخذ قسط من الراحة، الذهاب إلى غرفة (كوركن)، وما إن دخل عليه حتى هتف: «أرأيت؟ لقد قلت لك ذلك يا سيّد (كوركن)..».
أخذ (كوركن) يتلمّس طريقه باتجاه (جونز)، وأمسك بيده مُهنّئاً وصافحه بحرارة قائلاً: «من أول يوم قابلتك فيه لم يكن لديّ شكّ بأنك ستكون بأفضل حال»، وابتسم ابتسامة عريضة، ومضى قائلاً: «سيكون دوري خلال أسبوعين، وربما سيكون حظّي طيّباً كذلك..».
قبل مغادرته المستشفى في اليوم التالي، حرص (جونز) على التوجّه لغرفة صديقه لتوديعه، فقال له (كوركن): «هلّا تركت لي عنوانك لكي أقوم بزيارتك وأراك حالما أخرج من المستشفى»؟
قال له ذلك وهو يودّعه، ولم يدرك أنه لفرط تفاؤله بنجاح العملية قال في حديثه: «أراك»!
** **
- أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
Twitter:@aalsebaiheen