في صباح من صباحات أيام الجامعة جلس الطالب الشاب صالح حمد البيبي وحيدًا في بوفية كلية الآداب في الرياض ليتناول الفطور شطيرة من الجبن وفنجان الشاي، وبرغم ضوضاء المكان وضحكات وأصوات الطلبة حوله استطاع صمته حمله على بساط ريح الشوق والحنين إلى مدينته عنيزة إلى تفاصيل جغرافيتها وأحيائها ودروبها وغضاها والحقول وإلى بيتهم وغرفة أمه ومجلس ضيافة أبيه حتي تخيل أنه يري دلال القهوة ويشم رائحة البن والهيل تمتزج برائحة دخان حطب السمر والجمر محمر في جوف «الوجار» ولهيب أصفر راقص فوق هامات دلال القهوة وأطل عبر نافذة مكوك الخيال على غرفته وأشيائه المبعثرة فيها وسريره الخالي ورواية مهملة على المنضدة لم ينتهِ من قراءتها!!
وما بين حقيقة بعده وقربه بدأت المسافة وكأنها صفر من الأمتار وليست هي الثلاثمائة وخمسين كيلومترًا المسافة ما بين الرياض وعنيزة!!
وشعر صالح بوحشة الزمان والمكان حين حضر أمام عينية وجه أمه والأماكن التي يألفها، ثم استل قلمه من غمد هواجسه وأخذ ورقة من دفتر محاضرات مادة اللغة الفرنسية ليكتب من حبر فاض من أجفان الوله لمعشوقة قلبه أسمها « باريس نجد.».!
لك يا عنيزة في الفؤاد محبة
أصفى من الماء الزلال وأعذب
ونظر حوله فرأي حمامة من الحمام الزاجل يبدو أنها جائعة فقاسمها الرغيف
ثم رمى عليها الورقة التي كتب فيها بيت الشعر وقال لها احمل هذه الورقة بين جناحيك الدافئة حتى يذوب جليد حرف النداء ...وحين تكوني بين سعف نخيل عنيزة وبيوتها ونافذة غرفة أمي أشدي ببيت الشعر بعذب هذيلك!!!
ثم عاد صالح «شاعر الحنين» والتقط الورقة جديدة واتبع مطلع القصيدة بأبيات
كونت قصيدة وبنت حيًا جديدًا في مدينة اسمها «عنيزة»
ولكل قلب في المحبة مذهب
ولكل عين بالمودة تعرب
وأرى عيوني يا رفيقي تكلمت
وبصادق الحب الذي لا يكذب
فنعيم قلبي أن يكون متيما
في حب عذراء الجزيرة أطيب
لكِ يا عنيزة في الفؤاد محبة
أصفى من الماء الزلال وأعذب
وانتبه الطالب صالح شاعرنا العذب على جرس المحاضرة الأولى
في إجازة نهاية الأسبوع سافر إلى عنيزة لزيارة أهله وأحبابه وكل الأماكن
التي شاهدها في سينما الكلية على شاشة خياله حين كان العرض في الأعماق
سناريو كتبها شوقه وعرضها اشتياقه ووثقها لحظات بوح من شاعريته!!
وفي عنيزة قابل الفنان الطيب عبدالله الصريخ -رحمه الله- والذي سبق أن غني للشاعر صالح البيبي بعض قصائده فطلب منه قصيدة جديدة ليغنيها ...وكانت القصيدة (لك يا عنيزة.... ) معه فأعطاها إياه ليغنيها قائلاً له لعلك تغنيها مثلما غناها قلبي!!!
................
مضت الأيام والأشهر والسنين والشاعر لا يعلم عن معزوفة الحنين التي كتبها
اين صارت...؟
وحين أنهى دراسته وعاد إلى عنيزة رأى مجسمًا صخريًا نقش عليه بيت الشعر
لكِ يا عنيزة في الفؤاد محبة
أصفى من الماء الزلال وأعذب
دون أن يكتب اسم الشاعر ....
قد يكون الفنان العذب عبدالله الصريخ لم يغنها.
وبعد فترة أزيل المجسم الفني فتبعثرت حروف بيت الشعر لكنها ظلت منذ ذلك التاريخ وحتى الآن منقوشًا في ذاكرة أهالي عنيزة تردد كأعذب ترنيمة شوق وعشق ووفاء!!!
بيت شعر ولد رضيعًا في كلية الآداب بالرياض ليتمدد في مهد ناعم ورقيق منسوجاً من حرير أورده وشرايين أهل عنيزة العاشقين لها. هذه قصة بيت الشعر الذي أصبح ذائع الصيت للشاعر والصديق صالح الحمد.
** **
عبدالعزيز حمد الجطيلي - عنيزة
email: ayamcan@hotmail.com ** ** ** twitter: @aljetaily