تقوم مبادرة نقوش السعودية من هيئة التراث على إحياء وإعادة الأماكن التاريخية للواجهة، بعدما كانت منسية لتعريف أبناء الوطن بتاريخهم وبالتراث الذي يرقد في ثرى بلادنا، وإشراكهم في عملية البحث والتوثيق عنها، هذه الجهود التي تنم عن حس وطني ترافق ثورة التطور في كل المجالات، فالتاريخ جزء منا، وأمة بلا تاريخ قد تعيش لكن بغير ثقة واعتزاز فاليابان والصين على ما وصلت إليه من تقدم صناعي، إلا أنها تعيش حاضرها بتعاليم بعض حضاراتها من آلاف السنين، لكنها بقيت تعاليمها أسلوباً في حياتهم مثل الكونفشيوسية والشنتو والطاوية، وتعتز به فماضيها روح حاضرها.
كانت الرحلات بقيادة المؤثرين في المبادرة مع فريق ممن فازوا برحلات استكشافية؛ تجربة تحرك ساكن النفس بالشعور بهيبة التاريخ وحياة الآثار رغم اندثار أقوامها.
ما إن حطت أقدامنا في حائل الكرم حتى غبطتنا سحائب كرمهم وطيبهم كرم في علمهم وسماحتهم وبشاشتهم مبادرون ومحبون وكأننا أهلها وهم ضيوفها، فأدركت أن حاتماً حيًّا فيهم.
وإذا بقول قول الشاعر يتهادى لي:
تجده إذا ماجئته متهلِّلا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
كريم إذا ماجئت للعُرف طالبا
حباك بما تحنو عليه أنامله
ولو لم يكن في كفّه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
رحلة كانت حرارة الحماس فيها تخفف برودة الشتاء، انطلقنا لمركز جُبّة، تحديداً جبل أم سنمان المكان الذي يؤرخ في كل شبر من جسده علامات من نقش التاريخ، كانت في الصخور الغارقة في رمال النفود نقوش يبلغ عددها حوالي 12000، ما بين رسوم وكتابة مسمارية من العصر الحجري إلى العصر الثمودي والعصر الإسلامي المبكر، يعود عمرها لأكثر من عشرة آلاف عام.
كل نقش يحكي قصص حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، أقوام بادت، وما باد أثرهم، إنها آداب حياة تلك الأمم التي اتخذت جلاميد الصخور وسيلة لحفر أحداثها ومشاعرها رواية وحكاية تروى لمن بعدهم، أن صحراءنا وجبالها كتاب مفتوح لمن أراد أن يقرأ التاريخ في كل منطقة فصل منه يحكي عصراً وحضارة، في كل نقش كنت لا أكتفي بالنظر إليه بل ألمسه حتى أستشعر خلوده بكل حواسي.
كانت رسوم الجمال والخيل تنتشر في كل مكان، وهو دليل على استئناس البشر للحيوانات في تلك الحقبة التي كانت وسائل نقل ومعيشة، وإضافة لرسوم الأسود المفترسة ورسم ضخم لملك ثمودي بيده حربة، وبجانبه رسم نحيل لخادمه دلالة على قوة الملك التي توحي بها النقوش، وتعتبر حائل المنطقة الوحيدة التي تحتضن صخورها هذا الكم الهائل من النصوص الثمودية، بل إن النقوش لا تخلو من رسائل الحب والغرام في العصر الثمودي فكانت أغلب الرسائل بين المحبين الثموديين تبدأ «بمودتي» بالخط الثمودي المسماري دلالة على اللباقة في الحديث من تلك العصور.
أناخت ركائبنا بعدها في صحراء جُبّة ظهراً للراحة مع فريق نقوش السعودية تناولنا فيها أجمل قهوة سعودية عربية حقيقة، فمن حلاوتها لولا الحياء لكنت مثل حنيف الذي شرب خمسة عشر فنجالا، والله يلوم اللي يلومه، لكني اكتفيت ببضعة فناجيل؛ لو لم أكن مبالغاً لكن أفضل من عمل القهوة هم أهل الشمال، والله ما شممت أزكى منها ولا أطيب ريحاً منها إلا المسك، حتى رأيت وثائقي في حايل يقول أحدهم فيه، إذا كنت حينها منزعجاً لا تطبخ القهوة، فيصيبها شيء منك حتى لا تصلح للشرب «فذوق ونفس القهوة من نفس صاحبها إن زان زانت»، فأدركت أن سر القهوة وسحرها عندهم، ولا يقوم عليها إلا ذو دراية وعناية وممارسة، وزد على ذلك رائحة الحطب الفواحة الذي أشار إلى أحد الكرماء اسمه شاكر أنه أكثر أنواع الحطب مكوثاً على النار لا يستحيل رماداً إلا بعد مدة طويلة، وهذا الحطب اسمه «الأرطا»، وهو أطول عمراً على النار من حطب الغضى.
بعدها زرنا قصر النايف التراثي أمير منطقة جُبّة، ضمت أركانه متحفاً للسلاح البنادق بأنواعها والسيوف والرماح والذئاب المحنطة، وجنة من النخيل والزروع والورود، تسبح في أرجائه، ومجلساً تراثياً طينياً دافئاً، أكرمونا فيه بالقهوة السعودية العربية.
انطلقت قافلتنا أخيراً إلى إطلالة السميراء لمشاهدة الغروب والخزامى تنسدل من أكتافه، وأفول شمس يوم تغرب معها رحلتنا الاستكشافية بالتقاط صورة أخيرة للفريق، والتجربة التي ملأت كل واحد منا حبًّا للتاريخ، وامتناناً لوزارة الثقافة، لتستمر هيئة التراث في رحلتها في ست مناطق قادمة، ستُلهم مكتشفيها بلاشك.
** **
- عبدالعزيز سعيد المالكي