د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هناك شركات، ومؤسسات مالية، قُدر لها أن تعيش أكثر من مائة عام بينما تظهر شركات ومؤسسات وتختفي في بضع سنوات، وهذا ليس بغريب في عالم المال والأعمال، ولاشك أن هناك أسباباً لحدوث ذلك، وهي كما هي أعمار البشر منها ما يطول عمره، ومنها ما لم يقدر له الحياة، لأسباب متعددة وحوادث طارئة، فيزيائية، أوجينية، أو بيئية، وغيرها.
يمكننا الحديث عن قطاعين تجاريين نشأت فيها تلك الشركات وعمرت أكثر من مائة عام وما زالت قائمة حتى يومنا هذا، ولا شك أن مثل ذلك يستحق الوقوف عنده، والتطرق إلى أسباب بقاء تلك الشركات قائمة عبر تلك العصور التي مضت، بينما اختفى عدد من الشركات المماثلة في نفس القطاع، وهذا بلا شك يعود إلى أسباب كثيرة، منها الفرصة المتاحة، والإدارة، والظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها البلدان التي تنتمي إليها تلك الشركات.
تعتبر شركة بيجو أول شركة للسيارات في العالم وأقدمها وما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر، وتملك نصيباً لا بأس به من السوق العالمي، لاسيما في فرنسا، وفي إفريقيا، ولديها فروع مصانع في كثير من دول العالم، وقد مرت بعثرات كثيرة وكبيرة لكنها في نهاية المطاف تستطيع أن تتغلب عليها بطريقة أو أخرى، وعندما قامت الشركة في عام ألف وثمانمائة وثلاثة ميلادية من قبل السيد جان بيير، والسيد وجان بيجو، كانت مخصصة لصناعة الفولاذ والمناشير، وفيما بعد تحولت إلى صناعة الدراجات في عام ألف وثمانمائة وثلاثين، وبعد ذلك إلى صناعة السيارات في عام ألف وثمانمائة واثنين وثمانين ميلادية، وعرض أول نموذج لتلك السيارة في باريس عام ألف وثمانمائة وتسعين ميلادية، وعلينا أن لا ننسى أن شركة بنز التي أسّسها الألماني كارل بنز عام ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ميلادية، كانت في بدايتها متخصصة في صناعة محركات الاحتراق الداخلي، لكنها استخدمت لاحقاً في تصنيع السيارات، واستمرت تنتج أنواعاً مختلفة ومتميزة من السيارات والشاحنات، وبجودة عالية، وسمعة مرتفعة إلى وقتنا الحاضر، وليس ببعيد عن ذلك التاريخ، تأسست شركة فيات لصناعة السيارات في إيطاليا عام ألف وثمانمائة وتسعة وتسعين ميلادية، وكان السيد هنري فورد قد أنتج أول سيارة بتلك الماركة في عام ألف وثمانمائة وستة وثمانين ميلادية، لكنه لم يضعها تحت اسم شركة فورد إلا في عام ألف وتسعمائة وثلاثة، وتوسعت في التطوير بسرعة كبيرة كما هي حال الصناعات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك فبعد زيارة صاحب شركة بيجو لتلك الشركة قام بإضافة خط مثل ما هو قائم في شركة فورد، وشركة فورد ما زالت رائدة في هذا المجال وتغطي نسبة عالية من السوق العالمي.
يمكننا ملاحظة أن تلك الشركات العملاقة المستمرة في الإنتاج حتى الآن، لم يتم إنشاؤها في دولة واحدة أو في قارة واحدة، وإنما في قارتين وفي دول متعددة، مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وتلتهم بعد فترة وجيزة المملكة المتحدة، وذلك بإنتاجها لسيارة روز رويز، ومن الغريب أن تلك الشركات تمثل نسبة عالية جداً من السوق، وأيضاً تشتهر بالجودة رغم ارتفاع أسعارها، ودخول دول في هذا الميدان الفسيح من آسيا التي أخذت تزحف نحو الأسواق العالمية نظراً لانخفاض أسعارها، و جودة إنتاجها، لكن فيما يبدو أن تلك الشركات العريقة لن تختفي في القريب العاجل، لمواكبتها للتطورات الحديثة، فبعد دخول شركة تسلا إلى السوق بسياراتها الكهربائية، سارعت تلك الشركات العريقة في فتح خطوط إنتاج للسيارات الكهربائية، ونجحت في ذلك نجاحاً كبيراً، ووضعت الخطط لاستبدال لشركات القائمة بسيارات تعتمد على البطاريات الكهربائية.
المؤسسات المالية أقدم وأكثر عراقة من صناعة السيارات، وهذا أمر يمكن فهمه لأن المؤسسات المالية المتمثلة في البنوك تقوم بخدمات مالية تجارية لتيسير التجارة بين الدول، وحفظ أموال الأفراد والشركات، ولهذا فإن من الطبيعي أن تسبق غيرها، وهناك بنوك قامت قبل أكثر من خمسمائة عام، ومازالت تمارس نشاطها البنكي حتى وقتنا الحاضر، ويمكن اعتبار البنك الإيطالي بي ام بهي اس، أقدم بنك في العالم، حيث تم إنشاؤه قبل خمسمائة وخمسين سنة، ومازال يعمل حتى وقتنا الحاضر، ولديه فروع في إيطاليا، وفي دول متعددة، وقد ظل صامداً طيلة تلك المدة، التي صاحبها ولاشك بعض العثرات، والبنك الثاني الأقدم في العالم ، هو بنك بيرينبيرج بنك، أسسته عائلة ذات أصول فلمشية، قبل أكثر من أربعمائة عام، والفلامشيون يقطنون بين هولندا وبلجيكا، ويعتبرون من أكثر الأعراق جدية ونشاطاً في أوروبا، أما بنك سيفرج السويدي، فقد تأسس قبل نحو أربعمائة عام، ويعتبر أقدم بنك مركزي في العالم، ويشرف عليه البرلمان السويدي.
هناك ولا شك شركات في مجالات أخرى مثل التجارة البينية والنقل وغيره، ولا شك أن الإنسان يتساءل عن سبب صمود هذه الشركات والمؤسسات في وجه عاتيات الدهر، وتقلبات الزمن، وربما يكمن ذلك في تجنب الدخول في الصراعات، فيما حدث بين الدول، وأيضاً الصراعات بين أبناء وأحفاد المؤسسين.