أ.د.عثمان بن صالح العامر
ثمة شيء في الحياة مهم جداً، الإيمان به إيماناً مطلقاً دون الوقوف عنده طويلاً وإعمال وجوه النظر فيه، لأنه بإيجاز ودون توسع في الشرح والإيضاح سرُّ الله في خلقه، وفوق مدركات العقل البشري القاصر، ألا وهو أمر «القضاء والقدر» الذي يجريه الرب سبحانه وتعالى في كونه وعلى جميع مخلوقاته خيراً كان أو شراً.وعقيدة القدر هذه مبنية على الإيمان بصفات الله العليا وأسمائه الحسنى، ومن الصفات التي بنيت عليها هذه العقيدة (العلم، والقدرة، والإرادة، والفعل) ففي ثوانٍ معدودة غيّر الرب سبحانه وجه الأرض بقدر كوني واحد (الزلزال)، حيث غيّر سبحانه وتعالى سنَّتَه في الأرض فبعد أن كانت قراراً صارت إثر الزلال دماراً.
والإيمان بالقدر في عقيدة أهل السنة والجماعة يتضمن أربع مراتب:
* أولها : الإيمان بعلم الله للأحداث قبل وقوعها، فعلم الله عز وجل بما صار من زلزال عظيم فجر الاثنين الماضي سابق لكل شيء محيط بكل شيء، إذ يقول سبحانه وتعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، ويقول عز من قائل عليماً وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ .
* وثانيها : كتابة ذلك في اللوح المحفوظ. ومرتبة الكتابة هذه جاء في الحديث أنها التقدير كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (قدّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) يعني كَتَبْ، والله - عز وجل - جعل كتابته للأشياء على خمس أحوال فصل فيها علماء الأمة وسلفها الصالح أروع تفصيل.
* أما المرتبة الثالثة: فهي الإيمان بمشيئة الله النافذة. وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ .
* ورابع المراتب وآخرها: الخلق والإيجاد لما علم وكتب وشاء الرب سبحانه وتعالى، إنزال القضاء والقدر على البشر، دليل ذلك قول سبحانه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ . وتقسيم القدر الذي يجب الإيمان به إلى خير وشر إنما هو بإضافته إلى الناس. فالقدر في حق الله عز وجل خير كله، فالله سبحانه وتعالى لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه كما نص على ذلك علماؤنا الربانيون.لقد خلق الله عز وجل الأرض، وبسطها وأرساها بالجبال، وهيأها لتكون صالحة ليعيش عليها الإنسان، الذي اختاره خليفة له فيها وليس عنه عز وجل، وهو سبحانه وتعالى مالكها وليس نحن، وما زال هذا الملك بيده يتصرف فيه كيف شاء ومتى شاء وعلى أي صورة شاء، ومع أنه جل وعلا جعل سنناً لهذا الكون بأسره إلا أنه جلت قدرته قد يغير بهذه السنن فتكون الزلازل والبراكين والخسوف والكسوف، وبهذا التغيير الرباني للنظام الكوني الطبيعي كان هلاك الأمم السابقة، كما هو النص القرآني الخالد، رحم الله الموتى إثر زلزال فجر الاثنين المنصرم في كل من تركيا وسوريا، وشفى الرب المصابين، وجبر المنكوبين وصبرهم، ويسر خروج المفقودين من تحت الأنقاض سالمين، وحفظنا جميعاً بحفظه، وأدام علينا في بلادنا المباركة منه وفضله وإلى لقاء والسلام.