عبدالوهاب الفايز
لن تمر السنوات القادمة بسلام على البشرية، فقضايا التغير المناخي والإخلال بالنظم البيئية ستكون أحد الأمور المهددة للحياة، ومن حسن الحظ أن بلادنا تحركت سريعاً في السنوات الماضية لترتيب أوضاع البيئة، فأصدرت التشريعات الجديدة مع آليات تنفيذها، وخصصت الموارد المالية الضرورية لمواجهة تحدياتها التي تجمعت في السنوات الماضية التي شهدت إهمال الأمور الحيوية لحماية البيئة.
والأسبوع الماضي شهدنا أحد هذه التحديات، فقد عاد موضوع قرود الرُبَّاح المعروفة بـ(البابون) إلى واجهة الأحداث واستقطبت اهتمام الناس في المنطقة الجنوبية الغربية من بلادنا. وهذا الموضوع المتجدد يستحق التوقف عنده، فالقضية تحظى باهتمام مكثف من (المركز الوطني لحماية الحياة الفطرية)، وأيضاً تؤرق الناس المتضررة.
البحث في هذا الموضوع يكشف عن جهود حكومية جادة متعددة ومكثفة للتعامل مع هذه المشكلة القديمة، منها الحملات التي يُنظمها المركز مثل حملة: (توقفوا عن إطعام القرود حتى نتمكن من حل مشكلة تكاثرها)، وهذه واحدة من الحلول العديدة للتعامل مع المشكلة. هذه الجهود الحكومية تتطلب إشراك القطاع الثالث الخيري مثل الجمعيات والمؤسسات الخيرية والوقفية، أو عبر النمط الجديد: (شركات الاستثمار الاجتماعي).
دخول القطاع الثالث ضروري لمساندة الجهد الحكومي، فالمشكلة متعددة المصادر، ولا يمكن حلها بدون مشاركة فاعلة من الناس، ومن مؤسسات المجتمع الأهلي. ونسوق هذا المقترح، أولاً، من باب (التفكير خارج الصندوق)، وأيضاً لثقتي بمدى حيوية القطاع الخيري السعودي، ولمعرفتي بحجم الرغبة الحكومية لإنجاحه ودعمه.
منظومة البيئة في المملكة تحتاج دخول هذا القطاع بشكل (واسع، وسريع، ونوعي) حتى يتصدى للقضايا الحيوية التي ترتبط بالناس. القطاع الثالث آلية عملية توفر على الحكومات الجهد والتكلفة، والأهم: تقلل التكلفة السياسية حين معالجة القضايا المعقدة التي منشأها المجتمع، ولن تُحل دون مشاركته. الناس لديها الأفكار المبدعة والتجارب الثرية، ولدى القطاع الثالث آلية مرنة وسريعة لحشد الجهود.
من متابعة الموضوع الأسبوع الماضي وما أثير حوله في التواصل الاجتماعي، وبعد البحث والتحدث مع المسؤولين والمهتمين القريبين من مشكلة الحياة الفطرية، يتضح أن أبرز المشاكل التي يعاني منها المجتمع يمكن حلها بتدخلات سريعة، وغير مكلفة. ونحتاج هذه التدخلات لمساندة جهد المركز الوطني لحماية الحياة الفطرية، فالمركز لديه مشروع كبير لتقيِيم أضرار تزايد أعداد قرود البابون، ويهدف إلى تحديد المشكلات، واقتراح أفضل الحلول. والمشروع يُنفَّذه المركز بمشاركة عدد من الجهات من يناير 2022م إلى يونيو 2023، ويستهدف ستَّ مناطقٍ، وهي: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والباحة، وعسير، وجازان، ونجران.
هذه الحلول بعيدة المدى تحتاج وقتاً حتى يتم اعتمادها وتطبيقها.. وقد تطول المدة. لكن بيدنا حلول سريعة. مثلاً، أغلب المزارعين يعانون من إتلاف القرود لمحاصيلهم، ويضطرون لتوظيف حراس. هذا التحدي يقدم فرصة لتوليد مئات الوظائف الأمنية عبر إنشاء شركات حراسات أمنية تقوم على نموذج شركات الاستثمار الاجتماعي. فهذه تقوم لمعالجة مشكلة أو تحدٍّ قائم مع ضمان الاستدامة المالية. وربما الذي يعنيه هذا الأمر الإيجابي هو صندوق البيئة.
الصندوق دوره أساسي لقيادة المبادرة بحيث يتولى بناء النموذج وتمويله. وهذه الشركة قد تأخذ شكل المساهمة المغلقة بحيث يتشارك فيها الصندوق مع الجمعيات الخيرية والمؤسسات المانحة والأوقاف، ومع شركات الحراسات الأمنية الخاصة التي لديها الخبرة الفنية التشغيلية. هذه الشركة أيضاً تحتاجها المجمعات الاستثمارية والسكنية. طبعاً يفترض أن تحصل على مقابل مالي لخدماتها في الحدود المعقولة التي تضمن هوامش ربح تحقق الاستدامة المالية لعدة سنوات حتى يتم السيطرة على تكاثر البابون عبر الطرق والحلول بعيدة المدى التي يتم العمل عليها.
أيضاً يمكن التوسع بهذا النموذج الاستثماري لإنشاء شركة أخرى تتولى استكشاف الفرص الاستثمارية لقرود البابون. مثل إعادة بيعها لحدائق الحيوانات في العالم، أو عبر استخدامها كطعام للمفترسات، وغيرها من الفرص التي يمكن دراستها واستكشافها، مع النظر في التجارب العالمية. أيضاً قد نحتاج إنشاء شركة تتولى إنشاء محميات خاصة للقرود تُجمع فيها، ويمكن أن تخدم هذه الشركة التوجه الحكومي الجاد لمعالجة وجود الحيوانات المفترسة التي لدى الناس، فالقوانين الجديدة عالجت هذا الأمر، وهذا سوف يتطلب تقديم خدمات الجمع والإيواء، مع إدخال آليات التخلص العلمي المحترف للحيوانات المفترسة.
أيضاً قد نحتاج إنشاء شركات تتخصص في (جمع فائض الطعام) من البيوت ومن المنشآت بأنواعها لتلافي وضع الطعام في النفايات العادية. لقد اتضح أن الطعام أحد المصادر الرئيسية التي تجلب القرود إلى المساكن، والبابون تتكيف بسرعة مع الأطعمة وتستسيغها. المختصون في هذا الموضوع في المركز الوطني يركزون على هذا الجانب دوماً لأن (التغذية الفائضة تسببت بتغييرات فسيولوجية أدت إلى تضخم الأعداد وزيادتها بسبب البلوغ المبكر عند الذكور والإناث. فبعد أن كان الذكر يصل للبلوغ وسن التزاوج في عمر سبع سنوات والأنثى أربع سنوات، انخفضت فترة البلوغ إلى 4 سنوات عند الذكور، و3 سنوات عند الإناث. كما أن فترة الحضانة التي كانت تصل إلى سنة تقلصت إلى ستة أشهر، وهذا يعني استعداد الأنثى للحمل في فترة أقل. وبعد أن كانت الأنثى تنجب مولودًا كل سنتين تقلصت المدة إلى سنة أو سنة ونصف، الأمر الذي ضاعف عدد مرات الولادات بحيث إن الأنثى التي كانت لا تتجاوز 4 مواليد، أصبحت تنتج 7 مواليد في دورتها الإنتاجية).
حسب رأي الخبراء، هذا التغير الفسيولوجي والسلوكي رفع عددها، فبعد أن كانت الأعداد الطبيعية للمجموعات في البرية تراوح في المتوسط بين 90 إلى 120 فردًا، أصبحت الأعداد في المجموعات المستأنسة من 300 إلى 400 وقد تصل إلى 1000 فرد. محلياً، سبق إغلاق إحدى المحميات في الجنوب للصيانة، واتضح ابتعاد القرود عنها بعد اختفاء الطعام.
المشكلة سوف تتوسع بدون توسيع الحلول، والشركات الاستثمارية سوف تساعد في حل المشكلة، وتحقق آثاراً اجتماعية واقتصادية مثل: زيادة فرص الوظائف لشبابنا، ومساعدة المزارعين، وإدخال استثمارات جديدة في الاقتصاد المحلي، ورفع مستوى الإحساس الاجتماعي بأهمية حماية البيئة.. والأهم إشراك الناس في حل المشاكل التي يعانون منها، وهذا أحد المستهدفات الحضارية للقطاع الثالث.