محمد سليمان العنقري
عالم ما قبل كورونا ليس كما بعده، عبارة ترددت كثيراً منذ بداية الجائحة قبل ثلاثة أعوام لكننا اليوم نعيش فعلاً هذه التغيرات التي نتجت عن تداعياتها في الشأن الاقتصادي تحديداً، وإذا كان تأثيرها طال كل البشرية فالعالم العربي لم يكن استثناءً من تلك التأثيرات بنسب متفاوتة بين دوله فالأزمات التي ضربت العالم غيرت موازين القوى فيه وقضت على أفكار وأيديولوجيات كانت سائدة وذلك منذ الأزمة المالية العالمية 2008 ثم تلتها جائحة كورونا فذ 2020 وهي المفصلية لدواعي كثيرة، إذ كشفت عن الحاجة لاعتماد الدول على نفسها بالإنتاج المحلي بالإضافة لتوسيع خططها لمواجهة الأزمات مع إعادة بناء اقتصاداتها وفق مستجدات فرضت نفسها كتسريع التحول الرقمي واعتماد التكنولوجيا كأساس بممكنات كافة القطاعات الاقتصادية ثم جاءت حرب روسيا على أوكرانيا ليدخل معها العالم عصراً جديداً من الصراع بين دول كبرى عسكرياً أو اقتصادياً تسعى لأن تكون من بين أقطاب العالم وقد نتج عن الحرب تضخم إضافي لما أحدثته جائحة كورونا ما زال العالم كله يدفع ثمناً باهظاً في مواجهته.
فعند النظر للاقتصاد العربي فقد حقق نمواً كبيراً في العام الماضي 2022 بما يقارب 21 بالمائة وبحجم ناتج إجمالي وصل إلى 3،4 تريليون دولار أمريكي لكن من أصل 22 دولة عربية تركز 61 بالمائة من هذا الناتج في دول الخليج العربي الستة واستحوذت السعودية على قرابة 30 بالمائة من إجمالي الناتج العربي، لكن هل هذا التباين بين دول الخليج وبقية الدول العربية فقط بسبب وجود النفط والغاز وما تحققه من موارد جيدة من بيعه فالجواب هو بالنفي لأن هناك دولاً عربية لديها ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن وتعد أراضيها خصبة ولديها مخزون مائي كبير بعكس دول الخليج التي ليست من ضمن الدول الزراعية بشكل عام ومع ذلك لم تستثمر هذه الثروات بما ينعكس عليها بتطور اقتصادي لافت لأن الفارق هو في (الإرادة والإدارة) بين حكومات الدول الخليجية عن أغلب الدول العربية فرغم الأزمات الجيوسياسية التي تعيشها المنطقة منذ عقود وكذلك الاقتصادية لكن دول الخليج شقت طريقها بنجاح وحولت جل مواردها للتنمية الاقتصادية والبشرية بإرادة من قياداتها وإدارة حكيمة وهي تجني ثمار ذلك حالياً فكانت من أقل الدول تضرراً سواء بالأزمة المالية عام 2008 أو جائحة كورونا وأيضاً تداعيات حرب روسيا وأوكرانيا بفضل خطط عديدة منها التنموية وأيضاً خطط مواجهة الأزمات مع قراءة دقيقة لحاضر ومستقبل العالم وأين يتجه اقتصادياً وسياسباً مما منحها القدرة لتعزيز تحالفاتها الدولية ووضع دول الخليج على خارطة الدول الأكثر جذباً للاستثمار بين الاقتصادات الناشئة وهذا ما انعكس بأن تستحوذ على نصيب الأسد من إجمالي الناتج العربي ورغم أنها قدمت الدعم للكثير من الدول العربية بطرق عديدة كاستقدام العمالة منها لترفد بتحويلاتها المالية دولها بالإضافة للتجارة البينية ولمشاريع التنمية والمنح والوقوف معها بأزماتها وضخ الاستثمارات فيها لكن كل ذلك لن يكون كافياً لقيام نهضة حقيقية بأي دولة ما لم تعالج هي واقعها وتنتقل لمواكبة مستجدات القرن الحالي كما فعلت دول الخليج العربي.
فالمحاسب العظيم أتى للعالم العربي بداية من الأحداث التي عصفت به منذ 2011 لتنكشف بواطن الخلل التنموي والاقتصادي والسياسي بالدول التي ضربتها هذه الأحداث لكن لم يتم معالجة هذا الخلل بالشكل المطلوب فتفاقمت أزمات تلك الدول أكثر من السابق ومع جائحة كورونا والحرب الدائرة حالياً بين موسكو وكييف انكشفت بواطن الخلل أكثر في أغلب تلك الدول واتضح حاجتها الماسة لأن تعالج مشكلتها من الداخل بشكل جذري بدلاً من الاعتماد الكلي على الدعم الخارجي، فالنماذج الناجحة اقتصادياً موجودة أمامهم في دول عديدة بداية من دول الخليج العربي الأقرب لمحيطهم ومكونهم الثقافي من خلال الاطلاع على الخطط الإستراتيجية التنموية التي تنفذها وأخذ ما يمكن منها وإضافة ما تحتاجه دولهم وما تملكه من إمكانيات لاستثمارها بالشكل الأمثل إضافة لنماذج دولية عديدة مثل ماليزيا وفيتنام وتايلاند وغيرها، فالعالم اليوم لا مكان للكسالى فيه وإلا سيفوتهم القطار وما تعدد الأقطاب الذي يتشكل على أساسه عالم اليوم إلا مؤشر على ما سيكون عليه الاقتصاد العالمي ومن يستعد من الدول لتلك المرحلة سيكون من أكبر الكاسبين فالتغيير الفكري بالإدارة والتوجهات أصبح ضرورة بعالم الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي ولا بد من وضع خارطة طريق في تلك الدول العربية التي تعاني اقتصادياً حتى ترى النور بنهاية النفق فالأفعال هي من ستتحدث وليس الأقوال والشعارات التي أضاعت عقوداً سابقة على تلك الدول بفترة الخمسينات إلى ثمانينات القرن الماضي دون أن تنعكس بأي تقدم يذكر.
تسمى الأزمات الكبرى مجازاً بالمحاسب العظيم لأنها تكشف الواقع تماماً ويظهر ما تحتاجه كل دولة أو منشأة لتطوير أدائها ومواجهة التحديات مستقبلاً والعام الحالي يحمل أهمية كبيرة للعالم كله، إذ ستظهر تبعات جائحة كورونا وما خلفته من أضرار اقتصادية وصحية وما أفرزته من توجهات دولية جديدة إضافة لتبعات الأحداث الجيوسياسية وما ستنتهي عليه بعضها لأنه بمجملها ستتحدد معالم أولية لعالم القرن الواحد والعشرين وكيف ستتوزع القوى الاقتصادية فيه وأين ستتجه الاستثمارات والتحالفات وكيف سيدافع الغرب عن هيمنته وهل سندخل حرب باردة جديدة أم ستتعزِّز فرضية قيام حرب عالمية ثالثة.