د. محمد بن عويض الفايدي
متلازمة البيروقراطية والفساد تتفق وتتوافق في صور وأشكال متعددة ومتشعبة ومتداخلة فالبيروقراطية تؤسس للفساد والفساد يتجذَّر في النظام البيروقراطي، والروتين والإجراءات المعقدة تخلق المناخ العام للفساد وتُعد مرتعًا خصبًا له وساحة لنموه واستشراء قنواته واستثراء رموزه وممتهنيه، فالدافع الفطري للتملك يُشرعن للفساد، ويفتح بوابة التملك السهلة والسريعة عديمة الجهد التي يصعب مقاومتها. فحب السلطة وحب المال مسلَّمات فطرية يستحيل الانفكاك منها والتخلّي عنها شأن الكثير من الناس، مما يجعل تجذّر الفساد في الكيانات والمؤسسات كبيرها وصغيرها مسلّمة. ومن هنا فهل الفساد ظاهرة تعم كافة دول العالم يصعب الانفكاك منها؟ وهل الفساد هو البديل القادم للإرهاب للتدخل في شؤون الدول؟
الفساد وباء على نطاق واسع يتشابك تشابكًا وثيقًا مع البيروقراطية يكاد لا ينفصل عنها ولا ينفك ما يهدد التنمية الاقتصادية والاجتماعية ويُعرض الكيانات والمؤسسات للتصدع والانهيار، ويوقف التنمية ويقوض الاستقرار والسلم الاجتماعي، ويُهدد الأمن ويُفاقم الفقر ويُساعد على تفشي الانحراف والجريمة المنظمة والإرهاب والمخدرات، ويُوهن الاقتصاد ويُثبط الاستثمار ويُبدد الإعانات، ويُضر بالتجارة ويُشوه الأسواق، ويُدهور ازدهار الحياة ويُنشر البؤس والشقاء في المجتمعات، ويقضي على روح المنافسة، ويُقوض قدرة الحكومات على تقديم الخدمات الأساسية ويؤدي إلى التحيز والظلم. ويترتب عليه الكثير من الآثار الضارة بكافة مجالات حياة الناس.
تقول هيئة الأمم المتحدة أن ظاهرة الفساد الخبيثة توجد في جميع دول العالم كبيرها وصغيرها غنيها وفقيرها، إلا أن آثاره في العالم النامي والدول الفقيرة أكثر ما تكون تدميرًا لتعميقه الثالوث الأسود الفقر والجهل والمرض وترسيخه للتخلف الذي تعاني منه هذه الدول، ولتعدد صوره المتداخلة مع مختلف النشاطات والسلوكيات في المجتمعات البشرية وصعوبة فصله عنها، ولأن أجهزة مكافحة الفساد فيها أقل كفاءة من الدول المتقدمة. ولارتباطه بتحويل الأموال المعدة للتنمية إلى دول خارجية من خلال الفاسدين وسماسرة الصفقات المشبوهة التي تعتمد على المال الفاسد ونهب الفاسدين ومعاونيهم وبذلك تُحرم شعوب هذه الدول النامية والفقيرة من عائدات مواردها وخيرات أراضيها لتُستغل ويُنتفع بها خارج حدودها ضمن شبكات ومنظمات الفساد والفاسدين المتغلغلين في كياناتها الحكومية والخاصة، وأن التغلب عليه سيحقق تغيير حقيقي في نوعية حياة الملايين من الناس لأنه المعوق الأكبر للتنمية.
يُعد الفساد ظاهرة معقدة لها تاريخ قديم ومتجذِّر، وله صفة الديمومة والالتصاق بالمجتمعات البشرية في أي زمان ومكان، وفي كافة الأنشطة والاتجاهات المختلفة، ويشمل الفساد القيام بأعمال تُمثّل أداء غير سليم أو إساءة استغلال لموقع وظيفي أو سلطة بما في ذلك أفعال الإغفال توقعاً لمزية أو سعياً للحصول على مزية يوعد بها أو تُعرض أو تُطلب بشكل مباشر أو غير مباشر أو أثر قبول مزية ممنوحة سواء للشخص ذاته، أو لصالح شخص آخر، ويتضمن الفساد إساءة استخدام السلطة بهدف تحقيق مكاسب خاصة، وافتعال أعمال فاسدة غير نزيهة وسيئة تسيء للحكومات والشعوب كالرشوة واختلاس الأموال العامة، وجرائم عرقلة سير العدالة، والإخفاء، وإعطاء مزية غير مستحقة من الموظفين العموميين، وتحويل أو نقل العائدات الإجرامية «غسل الأموال»، وتعرض العاملين في الكيانات والمؤسسات الحكومية والخاصة للابتزاز المالي والجنسي.
يتم قياس الفساد بمؤشر دولي موحَّد يتضمن معايير دولية تقيس هذه الظاهرة من خلال أداة قياس يتم تدرج الدول فيها بحسب حالات الفساد التي تحدث فيها، وتُصنف الدول في مؤشر مدركات الفساد حسب حجم وتكرار الفساد فيها بالتركيز على الفساد الإداري وتتبع مجالاته حسب مؤشر منظمة الشفافية الدولية الذي أطلقته بعد إنشائها بعامين في عام 1995م كمؤشر عالمي موحد لقياس الفساد على سلم مراتب تبدأ من (0 إلى 100)، حيث صفر الأكثر فسادًا و100 الأكثر نزاهة، ويستخدم هذا المعيار لقياس مدركات الفساد في القطاع العام، ويعالج الجوانب التشريعية البيئية، وسير الإجراءات، والإطار السياسي والاقتصادي، ومستويات الحوكمة. ويعتمد المؤشر على 13 مصدر مستقل، يتم إعدادها بواسطة معاهد دراسات مستقلة أو جامعات، ويتولى تحليل هذه المصادر خبراء تختارهم منظمة الشفافية الدولية، والتي تُعد منظمة دولية غير حكومية تضم نحو (187) دولة لها نحو (100) فرع في مختلف دول العالم ومقرها الرئيس في برلين بألمانيا، وتعمل هذه المنظمة على مكافحة الفساد ومحاسبة من يقوم بأعمال فاسدة أو سلوك غير نزيه أو ظالم.
بعد عشر سنوات من عمل هذه المنظمة وفي عام 2003م تم إطلاق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وفي عام 2019م تم ربط علاقة الفساد الدولي بالديموقراطية في الدول، وأصبحت مدركات مؤشر الفساد تعتمد على مدى قوة أو ضعف ديمقراطية الدولة أي أنه كلما زاد معدل الفساد في أي دولة يعني إن ديمقراطية هذه الدولة ضعيفة، مما أزعج بعض الدول.
تضم اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد «71» مادة، موزعة على «8» فصول تتركز في «4» أجزاء أساسية الجزء الأول هو «الوقاية» المعني بسن التشريعات والإجراءات التي يجب على كل دولة العمل عليها لإرساء الشفافية والرقابة والضوابط بشكل يُصعب على الفاسدين ممارسة عمليات الفساد. والجزء الثاني هو «التجريم والعقاب وإنفاذ القانون»، ويعني تحديد أهمّ جرائم الفساد، وغيرها من الجرائم المرتبطة به، وتحديد عقوبات رادعة لها، وإيجاد آليات تساعد على ملاحقة مرتكبيها أمام القضاء بشكل فعال دون معوقات مثل الحصانات القضائية والدبلوماسية والسرية المصرفية وغيرها. أما الجزء الثالث فهو «التعاون الدولي»، ويتضمن عدة أحكام توفر تسهيلات وطرق واضحة تمكّن كل دولة من طلب المساعدة القانونية والقضائية من دول أخرى، والعمل سويًا على قضايا فساد مشتركة. في حين خُصص الجزء الرابع لجانب «استرداد الموجودات»، بتضمين الوسائل التي يمكن من خلالها للدولة من تعقب الأموال والأملاك التي حصل عليها الفاسدين وحجزها وتجميدها ومصادرتها واستعادتها. فالاتفاقية عبارة عن وقاية، وتجريم، وتعاون، واسترداد للأموال.
تزايد انتشار الفساد بين الدول بسبب عدم محاسبة ومعاقبة من قام به. مما ينبغي معه التعامل مع الفساد كجريمة يجب المعاقبة عليها من أجل الحد من الفساد والقضاء على أسباب وعوامل انتشاره، من خلال التزام الدول بتطبيق قانون الولاية القضائية العالمية للمساعدة في تخفيف ظاهرة الفساد والحد من تداعياته.
أعلنت هيئة الأمم المتحدة في عام 2021م في إطار «مبادرة الرياض» عن إنشاء شبكة العمليات العالمية لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد. وتهدف هذه الشبكة إلى إقامة مجتمع عالمي لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد من أجل مكافحة جرائم القرن بين سلطات إنفاذ القوانين، وتحجيم الفساد العابر للحدود، وتعزيز تبادل الاتصالات، وتوسيع نطاق التعاون بين سلطات إنفاذ القانون في هذا المجال.
دواعي الفساد تأتي في نزعة حب التملك والرغبة في الاستئثار، وقد يرجع إلى رغبة بعض الأشخاص في المال والسلطة بشكل مطلق دون وضع اعتبارات للحدود الأخلاقية. وكذلك انخفاض الحس الوطني والأخلاقي بسبب نقص الوازع الديني ومستوى الأمانة والتعليم أو تجربة التعليم السلبية التي مر خلالها الإنسان، أو بعض التجارب السلبية التي عاشها وتضمنت مظهر من مظاهر فساد ولم يتم تصويب سلوكه. إضافة إلى انخفاض الوعي وعدم وجود الشجاعة بين الناس لمواجهة الفساد والفاسدين، فبعضهم يغضون الطرف والبعض الآخر يصمت عن الفساد، مما يشجع الفاسدين على التوسع في سلوكهم في ظل وجود بيئات ثقافية واجتماعية تؤمن بالفساد وتتغاضى عنه وقد تُشجع عليه.
تتفاوت البيئات فبعضها يعتبر الفاسدين مصدر فخر وإعجاب وقدوات يحتذون بالتهرب من المسؤوليات والقدرة على تحقيق مكاسب شخصية بطرق غير مشروعة. ناهيك عن عدم تطبيق القوانين واللوائح الرادعة والذي بدوره يؤدي إلى الإهمال القانوني لمكامن الفساد مما يساعد على انتشار الفاسدين واستشراء الفساد، مع عدم كفاية العدالة وسيادة القانون، وتأخير إجراءات التقاضي، وعرقلة سير العدالة، وضعف الأحكام القضائية في بعض الدول، وغيرها من الأسباب والعوامل الداعمة والميسرة للفساد.