الكاتبة أجنيس روثري - مجلة «ريدرز دايجست» الصادرة في شهر يوليو 1947
حفلات التخرّج في أيّ مدينة جامعية تحفل بالفوضى والارتباك، وخاصّة فيما يتعلّق بتنظيم الفقرات المجدولة في برنامج الحفل، واستقبال الزوّار المتوقّع وغير المتوقّع حضورهم.
ففي أحد أيام شهر يونيو في (شارلوتزفيل) بولاية (فرجينيا) بدا لي أن سيكون هناك هرج ومرج أكبر من المعتاد في مثل هذه المناسبات السنوية. كانت الطرق والمساحات الخضراء المحيطة بالجامعة مزدحمة، وكان الطلّاب مندفعين في الدخول والخروج باستمرار من منزلنا، فقد كان منزلنا مثل بقيّة منازل أساتذة الجامعة مفتوحاً دائماً للطلاّب، ومع أني كنت أجد صعوبة في تذكر كلّ أسمائهم، إلا أني كنت سعيدة برؤيتهم.
كنتُ قد أصدرت مؤخّراً كتاباً يتحدّث عن جامعة (فرجينيا) وعن منزلنا وحياتنا هناك، وكان كثير من الطلّاب السابقين في الجامعة الذين كانوا يعرفون منزلنا وحديقته الخلفية، يُحضرون نُسخاً من كتابي (السكن المُلائم)، لأقوم بإهدائه والتوقيع عليه، وكذلك كان بعض الوالدين يقومون بإرسال نُسخٍ من الكتاب إليّ بالبريد، ويطلبون مني كتابة بعض الكلمات فيها قبل أن يبعثوها بدورهم إلى أبناءهم الذين يدرسون في الخارج. وبالرغم أن هذا يسعدني كثيراً إلا أنه يطيل ساعات عملي المزدحمة أصلاً.
في اليوم الذي كان مقرّراُ فيه إقامة حفل التخرّج، زاد عدد المكالمات الهاتفية العابرة بشكل غير مسبوق، بينما كان الوقت بالكاد يكفي للاستعداد لحضور هذه المناسبة، وكان زوجي في السيارة يُطلق المنبّه لحثّي عل الاستعجال، وبينما كنت على وشك الخروج من المنزل رنّ جرس الهاتف، وكان على الطرف الآخر صوت سيّدة تسألني إن كان بإمكاني التوقيع على نسخة من الكتاب، وقالت إنها وزوجها قادمان بالسيارة من ولاية (مونتانا) وهما على مسافة قريبة من المنزل، وسيغادران الجامعة حالما تنتهي مراسم الاحتفال، وأن هذه هي فرصتهم الوحيدة لمقابلتي.
كنت على وشك أن أصرخ بصوت عالٍ : «لا!» وألقي بسماعة الهاتف بعنف، لولا أني لسبب أجهله كتمت غيظي وأجبت المتحدّثة بأني سأراهما إذا كان بإمكانهما الوصول في الحال، ثم أغلقت الهاتف قائلة لنفسي: «كم كنت حمقاء حين قبلت هذا الطلب المفروض عليّ!»
كان على زوجي أن يشارك في التمرين على أداء العزف الموسيقي في الحفل، فأخبرته أن بإمكانه المغادرة لئلا يتأخر، وأني سأحضر فيما بعد بسيارة أجرة، ولكن في الحقيقة أنه خلال مثل هذه الأوقات المزدحمة فإن الحصول على سيارة أجرة في مدينتنا الصغيرة يعتبر مستحيلاً، فتصوّرت نفسي أجري على قدميّ، متعثّرة في هذا الطقس الحار، لأصل إلى الحفل متعبة تظهر عليّ وعثاء الطريق ومتأخّرة بلا سبب مقنع!
انتظرت بعد ذلك على باب المنزل، فوصلَتْ في الحال سيارة تحمل لوحات (مونتانا)، نزل منها زوجان في منتصف العمر ويبدو عليهما مظهر الثراء الغير متكلّف، وعرّفا نفسيهما بالسيّد والسيّدة (جراهام).
وبعد أن رحّبت بهما وأدخلتهما غرفة الجلوس، وقفا مليّاً وتفحّصا الغرفة بعناية، ثم توجّها نحو الباب المفتوح وألقيا نظرة شاملة على الحديقة، ثم عادا وبقيا برهة صامتين.
وفي النهاية استدار الرجل وناولني نسخة من الكتاب قائلاً: «سيكون من دواعي سرورنا وتقديرنا أن تدوّني اسمكِ عليه، فلطالما حدّثنا ابننا عن زيارته لبيتك الساحر، وأردنا أن نراه بأنفسنا».
وأضافت زوجته: «لقد قضينا يومنا بالكامل في الجامعة، ورأينا غرفة (جاك) والمكتبة والنادي الرياضي وقاعات المحاضرات.. رأينا كلّ شيء».
قلتُ لهما بطول أناة، وأنا أخرج قلمي: «ماذا تودّان أن أكتب على الكتاب»؟
فقال الرجل: «فقط اكتبي اسمه: (جاك جراهام)، واسمكِ لو تكرّمتِ».
كتبت ما طلبا وأعدت لهما الكتاب متسائلة بعصبية كم من الوقت سيلبثان، ولماذا هما متردّدان في المغادرة، فسألت: «هل ابنكما سيتخرّج اليوم»؟
قال الرجل بنبرته الهادئة: «كان من المفترض أن يتخرّج ابننا هذا اليوم، ولكنه قُتِل منذ عامٍ في الحرب، في جزيرة (سايبان).»
وتابعتْ المرأة: «ولذلك حرصنا على حضور حفل تخرّجه، ومشاهدة كلّ الأماكن التي كان يحبّها ويتردّد عليها عن كثب، وخصوصاً منزلكِ».
أُصِبتُ خلال لحظاتٍ بالذهول من المفاجأة، ولم أجد الكلمات المناسبة لأتفوّه بها، فسالت دموعي غزيرة على خدَّي، ثم ازدردتُ ريقي ووجدتني أقول بطريقة غير ملائمة: «ها أنا ذا أبكي بينما أنتما هادئان تماماً»!
فقالت المرأة ببساطة: «نحن.. نحن بكينا كثيراً حتى جفّت دموعنا منذ زمن طويل».
كنت غارقة في دموعي أتحسّس طريقي بصعوبة وأنا أرافقهما إلى السيارة، ولكنهما تحدّثا بثبات وهما يودّعاني شاكرين.
وبينما كنت أراقب السيارة وهي تغادر منحدرة إلى الطريق، كنت أتخيّلهما جالسَين في مدرّج الحفل ينظران إلى الأسفل حيث الرؤوس المتوّجة بقبّعات التخرّج السوداء وهي تملأ الصفوف الأمامية. سيكون باستطاعتهما مشاهدة طوابير الخريّجين وهي تمرّ ببطءٍ وانتظام إلى المنصّة حيث يستلم كلّ طالب شهادة التخرّج.
سيراقب الزوجان كلّ ذلك بمآقٍ جافّة. وبالرغم من أن مسيرة الخريّجين ستكون متراصّة تماما، إلا أنهما سيريان مكاناً فارغاً لطالب واحد!
عند ذلك خطر في بالي فجأة فكرة مرعبة تشبّثتْ بكياني، كاصطدام جسم عنيف:
ماذا لو أنني عندما أجبتُ على الهاتف، كنت قد قلت «لا»!؟
** **
- أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
@aalsebaiheen