الرسم عالمه الأثير إلى نفسه، وموهبته التي يؤمن بها ويصدقها، الرسم مأوى أحلامه ومستودع أسراره، لا ينسى رأيهم في رسمه، لا ينسى ضحكهم من موهبته وسخرياتهم من إبداعه، وحين يجلب معه إلى عمله لوحة أنجزها، كانوا يتمادون في السخرية من أوهامه التي يظنها فنّاً عظيماً ، لكنه لا يستطيع تصديقهم، خاصة حين يرى ما تفعله اللوحة المنجزة في نفسه، حين يعود طفلاً بعد كل لوحة ينجزها.
كان مكتئباً نافراً، مضت عدة شهور لم يرسم فيها خطاً واحداً، في منتصف الليل، هبت على نفسه نسائم ذكريات عبقة، فكّر لو يعود إلى الرسم، لو يحاول إنجاز لوحة واحدة تُعيد الثقة إلى نفسه، بدأ بوضع الخطوط الأولى، ومع طلوع الصبح، كانت ملامح اللوحة واضحة، لكنه وجدها لوحة غبية فمزقها، وخرج من بيته تائهاً لا يعلم إلى أين هو ذاهب، عاد إلى منزله، دسّ نفسه في فراشه مستغرقاً في همومه وظنونه، لكنّ هاجس الرسم ألحّ عليه، قام من سريره وصنع لنفسه فنجان قهوة، جلس أمام لوحته وكأنه يسائلها، بدأ يرسم بهدوء واحتراف يؤمن به ويتقنه، رسم السماء زرقاء ونتف سحب بيضاء متوزعة، ونثيث من مطر ناعم، رسم وجهاً لرجل يتطلع إلى الأمام، تلوح على وجهه علائم فرح وسعادة، ترك اللوحة، وذهب إلى عمله، كان مهموماً حزيناً، لكن ما يجعله يحتمل العمل هو هاجس لوحته، كان يرى أن هناك من ينتظره ويرجوه، وما أن انتهى من عمله حتى ذهب مسرعاً إلى بيته ليكمل لوحته، في المساء، تكالب عليه النوم والحزن معاً، جاهد نفسه كي يُنهي رسم لوحته، كان الرجل في اللوحة فاتحاً ذراعيه يحضن الفراغ أمامه، كان الرجل في اللوحة ثملاً بسعادة متناهية، ما إن انتهى من رسم لوحته حتى عادت إليه نشوته القديمة، عاد طفلاً كما كان يشعر قديماً حين يفرغ من رسم لوحة ما.
في الصباح، صنع لنفسه فنجان قهوة، ذهب ليستمتع بالنظر إلى لوحته قبل أن يذهب إلى عمله، ذُهل حين رأى لوحته التي رسمها ليلة البارحة تغيرت، دار حول نفسه ذاهلاً، كيف! عاد ينظر إلى اللوحة التي اختلفت ملامحها فرجل الأمس السعيد رآه الآن رجلاً حزيناً متغضّن الجبين ينظر إلى الخلف، وفي الخلف أشجار سود قاتمة.
** **
- عبدالكريم النملة