تحكي هذه الرواية عن سبعين عاماً من الصمت الذي لفّ ظروف وملابسات اختفاء جدّ الراوي
«ميراث الابن»، الرواية الحائزة على جائزة جيونو الأدبية المرموقة من تأليف الروائي الفرنسي المعروف جون لوك كواتاليم (صدرت عن دار نشر ستوك الفرنسية عام 2019م في حوالي 272 صفحة).
تحكي هذه الرواية عن سبعين عاماً من الصمت الذي لفّ ظروف وملابسات اختفاء جدّ الراوي، لا أحد يرغب في الحديث عن هذا الرجل الذي اعتقلته قوات تابعة للبوليس السري الألماني لدواعٍ غير معروفة خلال فترة حكومة نظام فيشي في بداية سبتمبر 1943م في محيط إقليم فينيستير بفرنسا. ثم نقل إلى سجن مدينة بريست المخصص للسياسيين والإرهابيين.
سيظل الجدّ حاضراً بقوة في ذاكرة المؤلف، وسيبحث في سجلات الأرشيف في فرنسا وألمانيا وسيكتب عنه لكي تعيش ذكراه مرة أخرى ولكيلا تنساه الأجيال المتعاقبة ضمن عائلة كواتاليم وأيضاً لكي يتذكر الفرنسيون أجدادهم الذين قضوا في معسكرات الاعتقال الألمانية. نُقدّم إلى القارئ من خلال هذا المقال ترجمتنا العربية لحوالي 2300 كلمة.
يبلغ طول المركب حوالي أربعة أمتار وخمسين سنتيمتراً، ما أن يرفع الأب وأبناؤه الشراع الأحمر إلى أعلى حتى تأخذهم الرياح إلى عرض البحر. في شهر يوليو عند شبه جزيرة كروزون التنينية التي نُطلِق عليها باللهجة العامية كيرجات، في ذلك الصيف الذي يشبه فصول الصيف الأخرى، يجوب الأب وأبناؤه الجزيرة عبر مسارات منحدرة مشياً على الأقدام بطريقة تخرج أحياناً عن نطاق المعقول، يتخطون منطقة شديدة الانحدار ويسيرون في طريق طويل بمحاذاة الخلجان التي ينتشر بها نبات السرخس، يمرّون بخليج منطقة مويت، في الجهة المقابلة يسلكون طريق إدارة الجمارك، يسبحون في الشاطئ الشرقي، سينضمون بعد ذلك إلى أختهم الكبيرة لوسي وأمهم جين عند الواجهة البحرية للميناء. في كل عام يستأجرون في هذه المنطقة منزلاً صغيراً يقع خلف أرصفة الميناء، حيث تبعد منطقة كيرجات ساعة واحدة تقريباً عن مدينة بريست التي يوجد بها الميناء الثاني الذي يترددون عليه، نعم، ستظل كيرجات جزيرتنا.
بدأ يومهم هادئاً، هكذا كان بحر إرواز أيضاً بلونه الأخضر الداكن أو الأزرق الصافي، تعاظمت أمواجه شيئاً فشيئاً وارتفع مستوى سطح البحر، بدا الهواء منعشاً، لم يكن هناك بشر، فقط عدد قليل من السيارات في ساحة الكنيسة أو أمام واجهة فندق دى سابل الذي يضم منتجعاً صحياً ومساحات خضراء تحيط ببضع فيلات هادئة وجميلة بنوافذها البارزة وبشرفاتها، وكأننا ننظر إلى وجه السيدة دافني دو مورييه الذي يتسم بالجمود إلى حد ما.
ها هو فصل الصيف في شبه جزيرة أرموريك، مهما يكن من أمر المطر أو الرياح فإن السماء بدت صافية على امتدادها، ستسبح العائلة في أحد المسابح القريبة من البحر، يشاهدون هناك كما حدث لهم مئات المرات مغارة أفسنتين، سيضطرهم الارتفاع التدرجي في منسوب المياه للدخول إلى أعماق المغارة، في خضم حركة الأمواج التي تمتد امتداداً عرضياً لأكثر من ثلاثين متراً، ينبعث السر، سر المنحدرات، يبدو تجويف المغارة من الداخل شبه مظلم، ماؤها منعش، يُسمع للأصوات صدى، يتكثَّف البخار الصادر من الأفواه على جدران المغارة، لم تعد طبعات آثار أقدامهم إلا خطوطاً من نقاط صغيرة تتحرك، يشعرون بأن الزمن يستغرقهم، وأنهم مأخوذون بتدفقات الطاقة وبتأثيراتها إلى ما لا نهاية، إلى شبه جزيرة كيرجات التي لا نهاية لها.
إن منطقة بريتاني التي قضينا بها فترة الطفولة لم تتغير، فهناك دائماً أسطول صغير من القوارب، وأقفاص أسماك الماكريل الموضوعة على رصيف الميناء، يوجد زوجان من سمك السيف وكمية من الأخطبوط يشتبك بعضه ببعض، كما توجد غابة من أشجار الصنوبر، توجد أيضاً الخلجان الصغيرة التي يمكن الوصول إليها باستخدام حبل الانزلاق، ستظل حرارة فصل الصيف ثابتة لا تتغير في هذه المنطقة التي تُشبه الجزيرة، وسيظل الأشخاص الخمسة ثابتين في أماكنهم بمفردهم فوق تلك الأرض الجميلة التي لم يصل إليها أحد تقريباً حسب ظنهم، حتى بداية اندلاع الحرب قبل أن تعصف بهم أزمنة قاسية عصيبة، يُصاب فيها الإنسان أو يُقتل، إنهم ينظرون بطرف أعينهم إلى قرص الشمس وينتظرون هذه الأوقات.
2
وُلد باول في عام 1894م في مدينة بريست لعائلة تعود جذورها إلى إقليم فينيستير التي يعمل أبناؤها في مستودع للأسلحة تابع للقاعدة البحرية العسكرية، شارك باول في الحرب العالمية الأولى، تزوج من جين، لديه ثلاثة أطفال، لوسي ورونان بالإضافة إلى والدي بيير. كان باول ضابطاً احتياطاً، نُقل إلى شبه الجزيرة الهندية الصينية ثم عاد في عام 1930م، أما عن حياته المدنية، فقد عمل بعد ذلك في مطبعة ثم في شركة للإنشاءات، لكن مثل معظم الفرنسيين، تم استدعاؤه مرة أخرى في عام 1939م، وحصل على رتبة ملازم أول.
لا أعرف جدي، رحل في وقت مبكر جداً وبسرعة كبيرة، قُدِّر له أن يرحل على عجل، إن منطقة بريتاني التي عاش فيها أصبحت منطقتنا التي ورثناها عنه. إن إرسال خطاب إدانة في ظل حُكم نظام فيشي الفرنسي كان كافياً لنفهم، فماذا يتضمن هذا الخطاب بالضبط؟ لا أحد يعلم المحتوى، في الأول من شهر سبتمبر عام 1943م، أَلقي البوليس السري الألماني القبض على باول، سيتم نقله إلى سجن مدينة بريست في بونتانيو، تم وضعه مع المعتقلين السياسيين والإرهابيين، سيتم استجوابه، سينتقل بعد ذلك إلى معسكرات في فرنسا وألمانيا، لم يُسمح بإطلاق سراحه ولا حتى إعادته من حيث أتى. بعد مرور كل هذه السنوات، وعلى الرغم من الزمن الطويل الذي انقضى، سأنطلق للبحث عن جدي، سأذهب للقائه.
3
تبدأ الحكاية كلها هناك، في يوم الأربعاء من شهر سبتمبر 1943م، في آخر الصيف، حدّثت نفسي بسيناريو محتمل مخصص للأعمال السينمائية، ووفقاً للأحداث التي تمت في منطقة بلومودرن تحديداً في منطقة المحصنة التي تقع عند حافة شبه جزيرة كيرجات، توجد سيارة فخمة، أحدهم يُصدر الأوامر والآخرون ينهالون بالضرب عليه، جنود البوليس السري الألماني يقيدونه بالسلاسل، لم يكن جدي من النوع الذي يتساهل في اقتياده بهذه الطريقة الوحشية، لا، لقد أخذوه عنوة ودفعوه أمامهم بسرعة وبشكل مفاجئ، بدا شاحب الوجه كقطعة قماش رطبة، أما عن الجنود، فقد كانوا على عجلة من أمرهم، كما أنهم كانوا عنيفين، هبطوا على الدرج إلى ناحية الحديقة التي يوجد بها النخيل والتي قال عنها جدي باول إنها تُذكِّره بشبه الجزيرة الهندية الصينية، كانت تحركاتهم هادئة نوعاً ما، وذلك لمنع تجمهر الناس في شارع ليسكوز الواسع الذي يقع على قمة التل ويحيط بمنزلين، عبارة عن مبنيين متشابهين ومتجاورين، تم طلاؤهما باللون الأبيض ولهما مصراعان مطليان باللون الرمادي، شيدهما رجل أعمال من مدينة كيمبير لابنتيه التوأم، يبدو أن هناك رغبة في أن يكون البيتان متناظرين، يترك هذا التشابه انطباعاً بأن أحد البيتين صورة طبق الأصل من الآخر أو أن هناك خللاً في مجال الرؤية، ربما تكون النخلة الموجودة على اليسار هي التي تميِّز المبنيين، وبدون مزيد انتظار كان امتداد اللون الأخضر الداكن ينعطف إلى الناحية العلوية، ويندفع بسرعة نحو جبل مينيز-هوم الصغير الملاصق لشبه الجزيرة، يمتد الجبل ليتجاوز السياج النباتي ثم يختفي خلف أشجار السرو التي تملأ التل، يبدو وجه باول منتفخاً وهو يتكئ على الزجاج الملطخ بالطين. نعم هكذا.
ما زلت أتخيل صورة بيير الذي كان آنذاك يبلغ من العمر اثني عشر عاماً وهو يسير بصحبة صديق له ينتظره خلف الحاجز الحديدي، يجري عبر حديقة المنزل من الناحية الشمالية ليلعب على الشاطئ إلى أن تغطيه ظلمة الليل، وبينما يعود أدراجه يرى ذلك المشهد، وهو المغلوب على أمره، يبدو كالمشلول، لقد رأى والدته جين وهي تتشبث بتلك المجموعة، إنها سيدة متحفظّة إلى أبعد حد ومع ذلك ستشتبك مع رجال الشرطة، ستأخذهم بتلابيبهم، تتوسل إليهم، لكن باول انتهي به الأمر بالصراخ في وجهها من أجل الذهاب للاتصال بآيفون صديقه، في بلدية بشاتيولين، الذي يتمتع بمهارات جيدة في التعامل مع الإدارة في مبنى المحافظة، في هذه الأثناء وبينما كانوا يدفعونه ليدخل إلى الجزء الخلفي من السيارة من طراز سيتروين، كان يجلس في مقدمة السيارة رجل فرنسي وأحد رجال البوليس السري الألماني، يجلس باول مع رجل ثالث ضخم الجسد في داخل السيارة من الخلف، كان الدم يتدفق من فمه ومن أنفه ويلطَّخ قميصه وقد انكمش على شكل قوس متسخ، اتّسعت بقع الدم الحمراء اللزجة لتشوَّه المقعد الخلفي في السيارة، أصابه الذهول بسبب اعتقاله، لم يعد بإمكان باول التمييز بين الصور والجماهير، أصبح كل شيء بالنسبة إليه ضبابياً ومتضخماً وكبيراً، كانت يده مقيَّدة بمقبض السيارة وتتدلى كشيء غريب، أما عن الرّجُل الآخر فقد سدّد إليه لكمة ثانية بيده وقال له أيها الوغد الإرهابي، وهكذا شعر كل من بداخل السيارة بالخوف الشديد.
سيظل في مدينة بريست لعدة أسابيع وهو يتألم خلف أسوار سجن بونتانيو المشوهة، في حي روكوفرنس، داخل زنزانة في شبه ظلام دامس، يعيش حالة من التوتر، لا يسمع إلا وقع أقدام الحراس بشكل معتاد لساعات حيث يتناوب حارسان الذهاب والإياب، يوجد بالزنزانة فراش من القش قذر جداً، يشعر بالوحدة التي تذهب بالعقل، يبدو أن عالَم الأحياء مستمر في حركته بدونه خارج السجن، إنه العالَم الحقيقي، هذا هو حاله، الليالي تمر بصعوبة، سواء كانت قصيرة جداً أو طويلة جداً، خاصة عندما يشعر باضطرابات في معدته، عند بزوغ الفجر يتم توزيع العصير من خلال فتحة صغيرة حديدية في الباب ويوزع أيضاً قطعة كبيرة من الخبز يتم تقسيمها بين النزلاء، تتوالى الاستجوابات داخل كنيسة نوتردام دي بون نوفيل التي تقع في حي لامب يزيليك، حيث توجد «الغرفة القذرة» التي يستخدمها البوليس السري الألماني، فكل من يعترف أو يخون سيذهب قسراً وجبراً مع فرقة البوليس الألماني المعروفة بشوبوس لاعتقال زملائه.
خلال زيارة لسجن بريست، حاولت أن أذهب إلى هناك لتفقد تلك الأماكن المهجورة - لا يزال السجن موجوداً وفي حالة يرثى لها، لقد تم بناؤه على أرض مرتفعة - سأطوف حول أسوار من الأسلاك الشائكة، سأسير في الأزقة وأنا أسأل نفسي عن الشيء الذي استطاع باول أن يشاهده من خلال تلك الفتحة في زنزانته. أَشَاهَد القناة؟ أم البحر؟ أم أنه شاهَد شبه جزيرة كيرجات؟ أم السماء الرمادية التي تعلو الأسقف وتبدو كغطاء للفتحة الصغيرة؟
من الآن فصاعداً، سيصبح باول عدواً للرايخ الألماني، سيصبح غير مرغوب فيه، لقد أخذوا أوراقه ورباط حذائه وحزامه، يجلس على فراش من القش، لا يزال يعيد التفكير في اللحظات الأخيرة، يحتفظ في رأسه بكل شيء، يتذكر ذلك المشهد من جديد، يحاول أن يقتفي أثر شيء ما بلا طائل، إنها العلامة: خطواتهم في الفناء، رنين الجرس، اسمه الذي يتردد خلف الباب، الرجال الذين يسيرون مندفعين، المخدر السام ينبعث في كل مكان، في وسط المكان، إنهم يسرعون على الرغم من أن تخطيطهم يتّسم بالبطء، قلبه ينبض بقوة، تم تقييده داخل السيارة من نوع سيتروين، انغلق باب السيارة وأصدر صوتاً مرتفعاً، سيعبر المدينة الصغيرة، سيمرّ على فصيل من الجنود الألمان الذين يقفون في صفوف، سيمرّ أيضاً على طفلين يقفان على باب إحدى المزارع، سيشاهد صديقاً له على دراجته عند مفترق الطرق، سيرى زميلاً له آخر أكبر سناً ينظر خِلسة من نافذة تقع عند زاوية المقهى في مدينة اييس، القرية بأكملها تعلم ماذا حدث، تسير السيارة في الطريق المنحدِر نحو نهر الأولين، سيعبرون الجسر، ضجيج المحرك يملأ الحقول والغابات، تتجه السيارة ناحية الساحل الجديد، يشعر بوجع شديد في رأسه، أصبحت يده ثقيلة مثل الرخام، من خلال النافذة الخلفية ينظر إلى طريق الإسفلت الذي أصبح يمثل بالنسبة إليه شريط حياته طالما أن هناك منعطفات تظهر وتختفي، لا وجود لبطل، يجب أن ينسى كل هذه العوامل، إنهم ينطلقون بسرعة كبيرة، إن وقوع تصادم بالسيارة سيكون أفضل بكثير مما ينتظره، بعدما مرّ على اليافطة الأخيرة المكتوب عليها «مدينة بريست»، ينقبض قلبه فجأة ويشعر بخوف شديد.
4
إن مدينة بريست تسبِّب لنا الصُّداع، إنها مدينتهم، كما أنها مدينتنا، فهي العاصمة التي ترتجف، إن مدينة بريست هي ما تبقى لنا، غارت المياه، ساد الغموض، «أن تتكلم يعني أنك خائن بالفعل»، هكذا كان الناس يتهامسون خلال الحرب، لن نتحدث أبداً عن اختفاء باول، أطبق «الصمت» علينا، اننا نتجنّب الحديث عن سجل خدمته العسكرية وعن الموقع العسكري الذي خدم فيه، كما أننا نتجنّب الحديث عن عناوينه في مدينة سايجون الفيتنامية وفي مدينة بريست وفي منطقة كيرجات.
منذ زمن طويل ونحن لا نعرف أي شيء عنه على وجه التقريب فيما عدا بعض جزيئات الأمور ودقائقها التي يمكن الحصول عليها بصعوبة، هذا الوضع يجعلنا نسقط في هاوية ألمانيا النازية، إن ألبوم الصور يجعلنا في ذهول، لن نتحدث عنه الآن، لا داعي لذلك، لكننا سنتحدث عنه في مرة أخرى، مثلما حدث مع الموظفين الثانويين في الصين القديمة الذين يتحتم عليهم ألا يلوثوا اسم الإمبراطور الأعظم بألسنتهم، ينبغي إذن أن تتخلّل فترات من الصمت كلامنا عندما يتعلق الأمر بشخصه، علينا أن نبتلع لُعابنا، لن نضيف أي شيء، ها هي بعض المناظر الطبيعية ومع ذلك فان اسمه لم يُذكر، توجد بِضعة ثغرات في خرائطنا وفي طرقنا وفي وقائع الأحداث، إن الألم الذي يُعاود الإنسان مراراً لا يمكن عرضه للنقاش نهائياً.
داخل أرشيف بلدية بلوموديرن، كنت عنيداً وأتمسّك بميثاق الصمت، وعلى الرغم من ذلك فإنني كنت أبحث عن الصناديق الكرتونية الكبيرة المخزنة بعضها فوق بعض التي تشبه إلى حد كبير طبقات من الحجر الجيري، هذا هو المكان الذي تم فيه الاعتقال، هنا أسرار عالَم قديم سقط في غياهب العدم ويعجّ بالغبار.
من المؤكد أنه عند عدم وجود نسخة مصورة عن طريق الميكروفيلم، فلا يمكن لنا أخذ الأمور على محمل الجد ... إن السكرتير السابق السيد أرماند الذي أعطاني أحدهم رقم هاتفه قد تمهَّل بعض الشيء حتى يقابلني لأنه «كان على علم بالحرب»، لقد أعطاني موعداً لمقابلته عند ميدان الكنيسة وموعداً آخر في مقهى على مقربة من ذات الكنيسة وهناك أحضر لي نسخة من إعلان وفاة باول الذي استطاع الحصول عليه، لا يعني هذا الأمر بالنسبة لي أي شيء، مع الأسف، ولكن، مع إصراري استرجع الرجل الطاعن في السن واقعتين أو ثلاث وقائع حدثت في ذلك العام، الا أنه لا يوجد شيء يجعلنا نستشف أن ما يقوله حقيقي، فهو بنفسه لا يتذكر هذه الواقعة البسيطة التي حدثت في عام 1943م، فالرجل لا يتمتع بأي ميزة، بكل تأكيد.
ولأن هذه القضية لم يتم فحصها مِن قِبل إدارات البلدية، فقد أدركت أنه لا يريد أن يتدخل في هذا الشأن، لقد تقاعد منذ فترة طويلة، كانت القرية صغيرة وكانت العوائل مترابطة مع بعضها البعض، لم يكن الرجل بحاجة إلا لحفيد يلعب مع آخر في بداية الصيف، إنه أمر عبثي بعض الشيء، ما الفائدة إذاً من إشاعة الخوف ومن البحث عن الوقائع القديمة؟ أليس كذلك، سيكون من الأفضل استجواب أحفاد الدكتور فورش، العمدة السابق، الذي قاوم منذ البداية، سيذهب للبحث في سجلات أخرى، في مدينة كيمبير، في أرشيف المناطق، سيظل يبحث حتى أوقات متأخرة، سيبحث في مبنى المحافظة وفي إدارات الشرطة وفي باريس أو في ألمانيا، لكن بدون أمل، سينفق من وقته الكثير.
على حد علمي، لم يرَ بيير والده إلا مرة واحدة فقط في سبتمبر أو أكتوبر من عام 1943م، كانت زيارة استثنائية إلى سجن مدينة بريست، يسير ممسكاً بيد جين، يرغبان في الحصول على بعض المعلومات، يدخلان معا من البوابة ويمران بالفناء حتى وصلا أمام الأبواب المعدنية حيث يوجد حرّاس السجن، كان باول منهك القوى ومتسخ الثياب ولحيته طويلة ومتعباً جداً، نهض بسرعة، كان علينا أن نقوى من عزيمته قبل أن يتم إعادته إلى غياهب السجون ، قال لي لتكن شجاعاً، اعتني بأمك، لا يوجد غيرك، لكن ما الذي يمكن أن يفعله هذا الصغير البريء ضحية الحروب التي يصنعها الرجال؟ ستبقى هذه النظرة تميز بيير إلى ما لا نهاية، انها الصدمة التي ستقلب حاله رأساً على عقب لسنوات، إن ميثاق الصمت الذي ألزم به نفسه سيكون بمثابة الحماية له.
** **
- د.أيمن منير