القراءة بالنسبة لي عملية مستمرة وأسلوب حياة، فكلما قرأت كتاب اشتقت لآخر لذا تجد في كل مكان ارتاده كتاب، في السيارة وفي غرفة «الشبة»، وآخر في غرفة نومي، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي هي صناعة طقوس بسيطة للقراءة! فمهما بلغت درجة انشغالي، لا بد أن أجد وقتاً للقراءة.. وإن لم أفعل سلمت نفسي للسينما والدراما بمحض إرادتي عبر الــ Netflix لمشاهدة فن إتقان الحياة! فشدني فيلم سعودي «حياة امرأة « فتذكرت رسالة أستاذ الصبا والمراهقة «أبا راكان»، وحرصه على متابعة فيلمه عبر « نتفلكس “.
اشتهر عبد الهادي السعدي منذ بدايات الشباب بكونه كاتباً مسرحيًا، وأستاذاً في فن الحوار واستنطاق الآخر، وكذلك صحفياً يستند إلى الإنسانية الواقعية ولكنه اليوم قرر أن يكون منتجًا لما يكتب.
فقرر السعدي في هذا الفيلم أن يحلق بخيالنا عبر 74 دقيقة «سعودية» بامتياز، خارج المستحيل واستطاع أن يذيب الجليد من على وعينا ويكسر بمطرقة العلم جدار الجهل والتعصب بمال يتناسب مع الواقع، وبيّنَ صورةٌ تعبر عن حب الإنسانية الذي هو جزء مهم من هويتنا، فرؤية «عبد الهادي» للحياة، تجعلك تشعر بالصدق الذي يُبنى على الإنسان كما هو، وليس كما ينبغي.
فتمكّن «عبد الهادي» من وصف الناس في بلادنا الناهضة القوية بعقلانية وبإحساس مميز بتعقيدهم وتشابكهم. فهو مؤلف متحرر من إبهار السبابة الأخلاقي.
ففي الفيلم، نرى عند تحليل مشاهدهِ الأكثر جمالية على مستوى النص والتقنية والتعبير، فكان شحنة سيميولوجية تنعش الذاكرة وتحرك الوجدان وتفيض بالمعاني وتوقظ في الأعماق الرغبة في التأمل وتتبع أدق التفاصيل.
يرصد فيلم «حياة امرأة» ما تعرضت له المرأة السعودية من التهميش والإقصاء في مجتمع ذكوري، من خلال حكايات متباينة وأعمار متفاوتة لأبطال تعايشنا معهم في حياتنا اليومية والعائلية خلال أربعة عقود خلت، وفي أبعادهما الإنسانية والروحية بطريقة تتحاشى الابتذال، لتوصل الهدف في أن تسلك طريق التعبير الجمالي البسيط الذي ينفذُ إلى القلوب دونما حاجة للتكلف في الطرح الدرامي المثالي، وكل ذلك كان مدفوعا برؤية المخرج الخاصة لظواهر وكوامن الأحداث، فقصص العشاق في أرضنا لم يتفوق فيها الحب كأسطورة قيس «مجنون ليلى» والفارس العبسي عنترة مع عبله.
ليبدأ «حياة امرأة» في مشهد رد فعل المجتمع من زواج عوض بحبيبته مريم، وينصر الحب في النهاية بين صالح وحنان، وتتويجها بالزواج.
شموخ المرأة السعودية يتجلى في دفاعها عن حبها وعن اختيارها لشريك حياتها (حبيبها عوض) متحدية عوائق مجتمعية عديدة أبرزها عايض (المحب من طرفه فقط) وتقرر تغيير مقر الزوجية والانتقال لمجتمع المدينة، رغم عدم قناعة زوجها عوض. وتحملها عواقب القرار بتقديم ثروتها لدفع التكاليف المادية لحياتهم الجديدة. فظهرت مريم وهي تنتزع من ذراعها قطع الحلي الذهبية في لقطة سينمائية باهرة للمرأة السعودية مريم التي لا تنحني ولا تخضع، وبكبرياء فلا تتنازل ولم ترتجي مساعدة من أحد، فذهابها لابن عمها عايض عند حاجتها لا يعد ضعفاً ودليل ذلك كلمة: (تكفى) فـ»تكفى» تلك أشعرت عايض بصلة الدم وأغلق كل ملفات رد الدين القديم من معشوقته التي رفضته واختارت شخص آخر غيره، ليعبر عايض بكلمة واحدة موجهه لابنته بلهجة نجدية: (قابلتنبه) وجعل من الفيلم أقرب إلى معزوفة درامية تعزف على وتر النسوية السعودية.
كتب الفيلم عبد الهادي السعدي وأخرجه سمير عارف في أول تعاون بين مدرستين سينمائيتين مختلفتين، فتخلى عارف عن خطه السينمائي التأملي، ونزل من برجه العاجي ليصغي إلى نبض الواقع اليومي والمهمش، مع احتفاظه بـ «ارستقراطيته» الإخراجية، التي تجلت في تقطيع مشاهد زوايا التصوير والإضاءة ليضمن موقع الفيلم بين قائمة أفضل الأفلام متابعة في السعودية عبر أكبر منصة عالمية متخصصة بعرض الأفلام.
الفيلم طرح إشكالية حول مدى إمكانية حل التناقض بين وصم «الإعاقة» الذهنية أو الجسدية وكيفية إدماجه في نفس الوقت، فمشاهد الطفل صالح (الطفل الصامت) يحيلنا إلى لبّ المشكل المتمثل في محاولة إدماج من هو غير قادر على ذلك.
من خلال مشهد الإشارة بيديه للأخت الصغرى وملامح وجهه، ونجح من خلال تلك الإشارات من إثارة وعي المشاهد بضرورة تجاوز المحيط المعيق للتواصل التفاعلي، إضافة لطرحه مشكلة ضعف التشخيص للمريض لدينا ليلقى الضوء على ثقوب في ثوب المنظومة الصحية التي تحتاج إلى تعليم أنضج.
ولم يغب العمل استحضار قناعات يؤمن بها المجتمع السعودي وارتباط المستقبل بسميولوجية الرؤيا والحلم، فحضرت الرؤيا مع مريم، بثعبان هاجمها وهي نائمة فوق سريرها، لكن اختيار الثعبان في حلم وعلى السرير هل هي دلالة على مصيبة ستحدث؟
خلاصة القول إن عبد الهادي السعدي، عبر فيلمه «حياة امرأة» خرج من خلال شرخ في جدار الفكر الكتابي إلى التصويري، راسما ب ذلك شخصيته السينمائية المتميزة بمفرداتها. فمنذ اللقطات الأولى يفرض عليك الفيلم شخصيته الفنية، وطريقة الدخول، عبر موسيقاه التصويرية الرائعة إلى تفاصيله الصغيرة جداً والتي تجعل من الواقع مادته الخام.
** **
- د. خليف الحسيني