الفلسفة مجال معرفي معقد ومتشابك بحكم نشاط الفلسفة النقدي والتحليلي المستمر، ولذلك فهي أبعد ما تكون عن تبني القراءة المدرسية والتقليدية، فمشكلة القراءة التقليدية للفلاسفة (وهذا ما حذر منه دولوز وآخرون) أن تُقرأ النظريات قراءة غير تاريخية، فينفصل الفيلسوف عن سياقه الاجتماعي واللغوي والثقافي، وتأخذ مقولاته بُعداً مخالفاً لما كان يعيشه. قال ديلوز في كتابه المشترك مع غثاري:» إننا نرسم، ننحت، نؤلف ونكتب أحاسيس. فالأحاسيس باعتبارها مُدرَكات ليست هي إدراكات قد تحيل إلى موضوع (مرجع)؛ وإذا كانت تشبه شيئاً ما، فإن تلك المشابهة تحصل بوسائلها الخاصة» (1) وهذا يتطلب الالتزام بفهم النصوص عبر الشعور بها ووفق واقعها المعاش؛ أمرٌ يتطلب جهداً كبيراً وعيناً فاحصة وخبيرة.
ماينطبق على الفلاسفة -بنظري- يمتد لكافة النصوص والمجريات والوقائع الإنسانية، حيث تحتشد التفاصيل أمام عين القارئ ويجند لها آليات الفهم: فالأخلاق الأرسطية هي أخلاق النبلاء لا العبيد (طرح طبقي) ونقض المنطق لابن تيمية له غاياته الشرعية (طرح ديني) وثورة كوبرنيك لها أهدافها لتجاوز بطليموس (طرح علمي) ونقد العقل عند كانط هدفه تجاوز إشكاليتي هيوم في الحسية وبيركلي الأناوحدية( طرح إبستمولوجي).
ومن أبرز المناهج في قراءة التاريخ والفلسفة (وأظنه ينطبق على عدة مجالات في العلوم الإنسانية) هو منهج التوسم لدى شبنجلر، إذ لايكتفي بإدراك تفاصيل كل حقبة وشخوصها ورموزها ويتجاوز ذلك نحو إسباغ كتابة شاعرية للتاريخ بحكم عمق الشعر ونفوذه لدواخل الفاعلين الوجدانية، فمنهج التوسم «يتخذ المظهر وسيلة لإدراك الروح، وأن ينفذ من خلال الظواهر إلى الصور؛ ومن خلال الظواهر الثانوية إلى الظاهرة الأولية» (2). وهنا يجدر بالقارئ النابه ألا يكتفي بالجرد المعلوماتي وحده، كي يسعى إلى الشعور بدواخل الفاعلين وكونهم بشراً من لحم ودم، لهم رغائبهم وانحيازاتهم ومطامحهم، وأيضاً موقعهم التاريخي والجغرافي المتفرد.
وهذا قريب مما نصح به هيردر إذ يكسو المؤرخ لشخوصه نبضاً ودماً ويعيد إحياءهم: وهي خطوة تنطوي على مغامرة كبرى، ووصف هيردر ذلك بمهارة التكهن Divination حيث ينحو منحى أكثر تجريبية عبر «اتخاذ فرضية تحتوي بعض القرائن التجريبية المتوفرة، والمضي لماهو أبعد منها، حيث يمكن تكذيبها، كما يُمكن نبذها، أو مراجعتها حين يتم تفنيدها»(3). ومامن ريب أن الإبداع في قراءات النصوص الفلسفية والأدبية وحتى التاريخية (رغم واقعية حدوثها) لاتقف عند حدود ما اقترحه هيردر وشبنجلر، فخصوصية الثقافة واللغة التي ينتمي إليها القارئ توجب عليه الاستفادة من تراثه في تطوير أدواته وما يزخر به من أدبيات في هذا المجال.
ولفهم أدق لهذه الآلية: فلنتخيل قارئاً مستقبلياً عام 2500 لكتابات الطيب صالح: عليه أن يدرك اضطراب زمنه وسعيه الحثيث لتأسيس جنس أدبي جديد (الرواية) في بيئة غريبة عنه، وأنه عربي وسوداني وإفريقي، ويخوض في كتاباته أزمة العولمة والاستعمار، لكن عبر جنس أدبي مستجد نسبياً على العرب في القرن العشرين وهو الرواية الأدبية. فيتحاشى القارئ محاكمة الطيب صالح بمعايير سنة 2500 م بل يضعه في موقعه التاريخي المحدد مُتحرياً إنصافه وبعث مكنونات نصه إلى الحياة. غني عن الذكر أن هذه القراءة الفلسفية للنصوص لاتنغلق على نتائج محددة، فهي تأويل يستمر مع تراكم خبرة القارئ وتطور أدواته مع الجهد والصبر والتعاقب الزمني، والأهم: أنها قراءات كاشفة وإثرائية، فالقارئ هنا يتحول إلى فيلسوف آخر بالضرورة، وإلا فمهمته قاصرة بالتأكيد.
(1) جيل دولوز وفليكس غثاري. ما الفلسفة؟ ترجمة مطاع صفدي ص173
(2) عبدالرحمن بدوي. اشبنجلر. ص88
(3) هيردر. موسوعة ستانفورد للفلسفة. ترجمة طريف السليطي ص17
** **
- طريف بن عيد السليطي