أن تنتج عملًا أدبيًا أو فنيًا واحدًا يحدث من الحضور ويثير من الجلبة الشيء الكثير، ثم تأتي بعد ذلك بنتاجات لا تلفت الأنظار أو لا يتم تلقيها بالحفاوة والاهتمام المناسبين أو لا تستطيع كتابة أي نتاج مميز آخر، هي من القضايا التي لم ينبغ أن يعمل النقد الأدبي أو الفني على إيجاد تفسير منطقي لها، يجلي لنا الأبعاد المولدة لوجودية مثل هذا الأمر.
أذكر جديًا أن الشاعر الراحل كمال عبدالحليم قد كتب في العام 1956م، قصيدته الشهيرة «دع سمائي» التي تغنت بها الفنانة والسياسية الراحلة فايدة كامل أثناء العدوان الثلاثي على مصر والتي يقول فيها:
دع سمائي فسمائي مُحرقهْ،
دع قناتي فمياهي مُغرِقهْ،
واحذر الأرض،
فأرضي صاعقه
هذه أرضي أنا،
وأبي ضحّى هنا،
وأبي قال لنا،
مزقوا أعداءنا.
أنا شعبٌ وفدائيٌّ وثورهْ
ودمٌ يصنع للإنسان فجْرهْ
ترتوي أرضي به من كل قطره
وستبقى مصرُ حرة مصر حره.
فكان أن أحدثت قصيدته شهرة طاغية وأثارت حالة من اللغط في الساحة الفنية المصرية آنذاك، إذ أضحى النشيد يبث ويعاد بثه أكثر من مرة في الإذاعة المصرية، بحيث غطى وجوده، وطوح أثره بكل الأغاني الوطنية التي أنشدها كبار الفنانين في تلك الحقبة الزمنية والذين تسيدوا على الساحة الفنية المصرية وكانوا رموزًا للأغنية الوطنية، أمثال عبدالحليم حافظ، ومحرم فؤاد، وغيرهما من رموز الطرب المصري الأصيل.
إلا أن المفارقة أن شاعرنا الراحل كمال عبدالحليم، لم يؤلّف سوى ديوان واحد حمل اسم «إصرار»، ولم يكن له نتاج أدبي غيره. وفي محاولة مني للبحث عن أسباب ذلك الانطفاء الأدبي إن صح التعبير، فقد وجدت أن الرجل قد نشر نشيده المُغَنّى الشهير عقب ثورة 23 يوليو من العام 1952م، بأربعة أعوام، وهي الفترة التي لم يكن فيها أي تقارب بين الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة في مصر، وبين المعسكر الغربي، الأمر الذي أتاح للشاعر كمال عبدالحليم الذي عرف بشيوعيته وميله للمعسكر الشرقي وكونه عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري من الحضور والتواجد في الساحة الثقافية والفنية المصرية آنذاك.
إلا إن التباعد التدريجي الذي تلا تلك المرحلة لمصر عن المعسكر الشرقي ومحاولة النظام الناصري بمصر آنذاك في تحجيم نشاط الشيوعيين في الشارع المصري وقمعهم سياسيًا وأمنيًا من قبل أدوات النظام الأمني، والذي كان من تداعياته اعتقال كمال عبدالحليم في الحملة التي شنت على الشيوعيين المصريين بدءاً من يوم رأس سنة 1959م وبقائه في السجن حتى أيار 1964م، هو في رأيي ما أبعده عن الحضور الأدبي ومن وضع بصمته الخاصة على التفاعلية الثقافية المصرية.
فربما قد شكلت له فترة الاعتقال والتعذيب المهين الذي كان يمارس على المعتقلين السياسيين في السجون الناصرية حينذاك ، صدمة نفسية من النظام الحاكم في مصر، دعته للتوقف عن الكتابة الأدبية رغم قوة شعره وسلاسته في ذات الوقت، وعذوبة تركيباته التعبيرية، وحضور مفرداته وجودة سبكه الشعري.
هذا إلى جانب أنه قد كان هناك توجه سياسي بمصر في تلك الفترة لإبعاد المثقفين الشيوعيين عن الريادة والحضور الثقافي، وأذكر بأنه قد عانى من ذلك الأمر أيضًا الأديب والمترجم الكبير الدكتور لويس عوض. وهو مادفع باتجاه إبعاد الشاعر الراحل كمال عبدالحليم عن الساحة الأدبية المصرية والعمل على التعمية على نشاطه الشعري إعلاميًا.
نفس حالة أو مثل آخر على الوهج ومن ثم الانطفاء الثقافي أو الأدبي أجده لدى الغرب أيضًا، لكنه يتمثل بشكل مغاير. إذ ترتسم سماته في أن يكون للمثقف نتاج كتابي واحد يحقق شهرة عالمية طاغية تبقى لزمننا الراهن، في حين لاينظر النقاد ولا الأدباء وعموم المثقفين لما يلي هذه المؤلَف من نتاجات كتابية مهما كان جنسها الأدبي أو ما تحويه من فكر أو طرح نوعي. ويرتسم هذا المثال في الفيلسوف والكاتب الإنجليزي الشهير كولن ويلسون، الذي عرفه العالم قاطبة عقب صدور سفره الفلسفي الشهير « اللا منتمي»، الذي أصدره وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، والذي بلغت شهرته الآفاق.
المفارقة التي تبعث على الاستغراب إن كتاب «اللا منتمي» لكولن ولسن، فقد نشر في العام 1956م، أي نفس العام الذي كتب فيه الشاعر الراحل كمال عبدالحميد نشيده الشهير «دع سمائي»، فهل كان هذا العام يمثل وجه النحس على كلا الرجلين؟
إذ رغم عشرات الكتب التي قام بتأليفها كولن ويلسون والتي تجاوز عددها المائة كتاب، إلا أن معظم نقاد الغرب لم يتقبلوه على المستوى الثقافي، إلا بكونه مؤلف الكتاب الوحيد وأعني به «اللا منتمي». فكتابه الثاني (الدين والتمرد) 1957 م، قد قوبل بهجوم شديد من النقاد الذين كرروا وصفه بالمزيف والكذاب. والغريب في الأمر بأن النقاد قد ضلوا في حالة عداء مع معظم كتبه التالية، التي ربما قد لاقت الرواج التجاري فقط ولكن ثقافيًا قد ظلت منبوذة ونالت في الغالب هجوم النقاد أو لا مبالاتهم.
وفي تقديري أن تلك الحالة التي عانى منها ويلسون قد يكون الباعث لها هي حالة الغرور تلك التي نالته ودعته للتعالي على النقاد والتعامل معهم في مؤتمرات ولقاءات صحفية عدة جمعتهم به بنوع من الفوقية والتعالي. وفي تقديري أن حالة الغرور التي أصابته قد كانت ضمن السياق الطبيعي للإنسان الذي ينال شهرة طاغية وهو في سن مبكرة لم يصل فيها لحالة النضج العمري والعقلي على حد سواء. إذ من المنطقي أن يتجاوزها المشهور مع الوقت الشعور بتضخم الذات، ويعتاد على الشهرة، ومن ثم يستعيد توازنه النفسي واتزانه الانفعالي على حد سواء. وهو في رأيي ما جرى لاحقًا لكولن ولسون، لكن رغم ذلك فقد ظل العدو الأول للنقاد من وجهة نظرهم، ومن ثم فقد نال من شرهم وهجومهم العنيف على شخصه، وليس نقد كتاباته الشيء الكثير على امتداد حياته الأدبية.
فهل هي السياسة والغرور من كانت وراء حالة التعمية وأيضًا الخذلان الذي طال كل من كمال عبدالحليم، وكولن ويلسون، أم هو أمر آخر. حقيقةً أنا كغيري لدي مقاربات فقط في سعي الجاد للإجابة عن هذا السؤال، وليس أمر آخر.
** **
- د.حسن مشهور