سنويًا؛ في الثالث والعشرين من يناير يحل اليوم العالمي للكتابة بخط اليد؛ مناسبة تكاد أن تكون كغيرها من الأيام العالمية الكثيرة حد افتقاد الأهمية؛ لولا ما تعانيه الكتابة اليدوية اليوم من اندثار مضطرد لا نبالغ إذا قلنا إنه يزداد ظهورًا وتأثيرًا بمرور الأسابيع لا الأعوام، وهذا الاندثار يمتد ليشمل أدوات الكتابة بما في ذلك القلم الذي افتقد تدثره بدفء الأصابع التي هجرته إلى لوحة المفاتيح، وصار أداة مكملة لمستلزمات الوجاهة والتفاخر بالقلم الثمين سعرًا لا أثرًا، والورقة التي خسرت دورها المهم في توثيق المعلومات، والاحتفاظ بمسودات الأعمال الإبداعية حتى تصل إلى صورتها المثلى؛ حيث أنزلتها الأتمتة عن عرشها، وقامت شاشات الأجهزة الإلكترونية بدورها، فلم يعد للورقة بشكلها الملموس إلا في حال الاحتياج إلى الطباعة، وهي حاجة آخذة في التضاؤل تدريجيًا بشكل ينذر باختفاء الورقة بوصفها وسيطًا ثقافيًا حيال الورقة الإلكترونية.
ثمّة استفتاء قرأته في تويتر يطرح سؤالًا حول آخر مرة قرأ فيها المتلقي صحيفةً ورقية، كان السؤال محفزًا لقياس الاستجابة، ولمس واقع الصحافة الورقية لدى الجمهور العادي، وجاءت الإجابات متوائمة مع ما قد نتوقعه حول التعامل مع الورقة في وساطتها الإعلامية؛ فكثير من الإجابات تحدد تواريخ قديمة جدًا تصل إلى عشرين وثلاثين عامًا، وبعضها يجيب باستخفاف يشير إلى أن تلك الصحف كان لها دور وحيد يتمثل في كونها «سفرة» للأكل، أو مفرشًا لأدراج المطبخ، وبعضهم يستكثر حتى هذا الدورعليها.
أما عن الكتاب الورقي فلعل أكثر الجيل الشاب، إن لم يكن كله، يفضل الكتاب الإلكتروني عليه ولا يفتأ يوجه سؤالًا حول الجدوى من الذهاب إلى المكتبة لاقتناء كتاب ورقي طالما بالإمكان تحميل ما خف حمله وثقل فعله من كتب إلكترونية بضغطة زر، وهنا يعنُّ لنا سؤال حول النظرة إلى الكتاب الإلكتروني، وهل يُختار لكونه وسيطًا ثقافيًا بحتًا كما كان الحال مع الكتاب الورقي، أم أن الغاية النفعية التي ترى في الكتاب مجرد وسيلة للوصول إلى غاية هي الغالبة؟ ثم ما نوعية الكتب القابلة لكونها ضمن المكتبة الإلكترونية لفئة الشباب؛ هل هي غائية بحتة لهدف وظيفي أو ترفيهي أم هي إبداعية ثقافية؟
على الصعيد التعليمي لا تفتأ أصوات تتعالى بالمطالبة بالتحول إلى المقررات الإلكترونية المخزنة على جهاز آيباد واحد للتخفف من ثقل الحقائب البُجر بالكتب الثقيلة وملحقاتها من دفاتر وأوراق عمل، مما يشكل عبئًا على الأكتاف الصغيرة، والظهور التي اعتادت الانحناء على الأجهزة مما أكسبها تقوسًا غير صحي لا جريرة للكتاب الورقي فيه؛ لكنه طوفان القناعة الإلكترونية.
إن جولة سريعة في تاريخ الورق يجعلنا نعود آلاف السنين زمنًا، وإلى الصين مكانًا؛ حيث كانت صناعة الورق سرًا من أسرار الدولة، لم تسمح له بالتسرب؛ للاقتناع بدورها الفاعل في نقل الثقافة إلى جهات الأرض، خشية قضائها على تسيد الحضارة الصينية، وبقي السر مصونًا مدة سبعة قرون.
حين دخل المسلمون سمرقند، كان ضمن الأسرى خبراء في صناعة الورق فجعلوا ثمن حريتهم تدريب عدد من المسلمين على تلك الصناعة، ومع انتقالها إلى بغداد وقيام مصانع الورق هناك أشعت شموس العلم والحضارة عبر كنوز دار الحكمة، ومترجمات نفائس المخطوطات، والفريق الاحترافي من النساخين والكتاب الذين كانت الورقة والدواة رفيقتهم في صناعة تفوقٍ إسلامي غير مسبوق، وظهرت دكاكين الوراقين التي فاق عددها الثلاثمئة في بغداد وحدها، فخرّجت أكابر المثقفين في ذلك العصر، ونظرة سريعة على سير الجاحظ وابن المقفع وأبو العتاهية وغيرهم كثير يثبت الدور العظيم الذي لعبته حوانيت الوراقة في خلق ورفد تلك الحضارة العظيمة.
وبعد؛ فهذه كلمة تأبين تعترف بقلة وفاء الإنسان، وسرعة تحوله في سباق حضاري براغماتي يجعله لا يهتم بـ «الأشياء» التي قامت بدور الجسر بكفاءة؛ يبدو أننا جميعًا نشارك في دق المسمار الأخير في نعش الورقة الثقافية والعلمية والإدارية، ونتركها لمهانة لف الشطائر حيث ينتهي دورها عند التقاط ما بداخلها؛ لتسكن مثواها الأخير في ظلمة سلة المهملات، وستكون حظيّة إن سُمح لها بالانضمام إلى نعيم إعادة التدوير.
** **
- أ.د.هيلة عبدالله العسّاف