د.محمد بن عبدالرحمن البشر
خرجت الأرقام الرسمية الصينية عن عدد سكان الصين في عام عشرين اثنين وعشرين، وهو العام المنصرم، لتظهر لنا مفاجأة لم تكن في الحسبان، وذلك انخفاض عدد سكان الصين لأول مرة منذ 60 عاماً، بثمانمائة وخمسين ألف نسمة، وإن كانت النسبة قليلة مقارنة بعدد السكان، حيث لا تتجاوز ثمانية من عشرة آلاف، إلا أنه مؤشر على تغير اجتماعي واقتصادي كبير، غيَّر مسار تعداد السكان التصاعدي لسنوات وعقود متعاقبة، وقد كان هذا الخبر مثار نقاش كبير لدى عدد من المحللين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، فالصين ليست كسائر الدول، فهي أكبر دولة في عدد السكان، وثاني دولة في الاقتصاد العالمي، وأكبر دولة مصدرة، وأيضاً أكبر دولة مستوردة، للطاقة والمواد الأولية، وأيضاً تلعب دوراً رئيسياً في الميدان السياسي، وكان معدل نموها أكبر معدل في العالم، وهي الآن ما زالت تنمو بمقدار يزيد عن نمو كثير من دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وإن كان ذلك النمو قد انخفض في عام عشرين اثنين وعشرين، عما كان عليه فيما سبق لعدة أسباب، على رأسها وباء كورونا والإغلاقات المتكررة.
يبلغ العدد البشري لسكان كوكبنا أكثر من ثمانية مليارات نسمة، والصين تشكل نسبة هامة من هذا العدد، فتبلغ نسبة سكانها ثمانية عشر في المائة من عدد سكان العالم، وتشكل مع الهند أكثر من ثلث قاطني الأرض، بينما نجد أن الدولة الثالثة في عدد السكان وهي الولايات المتحدة الأمريكية بعيدة عن رقمي الصين والهند، حيث يبلغ نحو ثلاثمائة وأربعة وثلاثين، أي نحو أربعة في المائة من العدد الإجمالي.
في الصين يزيد عدد الذكور عن الإناث، فالذكور يمثلون اثنين وخمسين في المائة، بينما الإناث ثمانية وأربعين، وفي الغالب فإن مرد ذلك إلى سياسة الابن الواحد التي كانت سائدة في الصين، والتي كانت الأسرة لاسيما في الريف تفضل الذكور على الإناث للمساعدة في الحقل، وغير ذلك من متطلبات الحياة، وقد كان معظم السكان في ذلك الوقت ممن يعيشون في الريف، حياة بسيطة شاقة تعتمد على الزراعة اليدوية، مع استخدام يسير للآلة.
ومتوسط أعمار الصينيين في الوقت الحالي نحو سبعة وسبعين عاماً، وهو بلا شك رقم أفضل بكثير مما كانت عليه الحال قبل الانفتاح الذي قاده دينج، بعد التخلص من عصابة الأربعة، التي كانت نافذة بعد وفاة زعيم الصين الشيوعية ماو تسي تونج.
لقد حدثت في الصين تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية، وإستراتيجية، بعد دبلوماسية تنس الطاولة، وسعي نيكسون وكيسنجر إلى فتح أبواب الصين على العالم في خطوات متعددة وطويلة، أضحت معها الصين عضواً دائماً في مجلس الأمن، وتم الاعتراف عالمياً بصين واحدة، وخروج تايوان من الأمم المتحدة، وقد استغلت الصين هذا الحدث الكبير والهام، فدفعت بعجلة التقدم بدرجات متسارعة سابقت معها الزمن، وقد أتيح لي مشاهدة ذلك التطور والتغير المحموم في الفترة التي قضيتها في الصين لمدة أربع سنوات تقريباً ابتداءً من عام ألفين.
لقد كان هناك تغيرٌ اجتماعيٌّ واضحاً وملموسٌ في الصين، فقد جلب التطور الصناعي السريع جداً عدداً هائلاً للهجرة من الريف إلى المدن، ومازلت أذكر ما سمعته عند لقائي بالرئيس الصيني جيانغ زيمين أن من أكبر التحديات التي تواجهها الصين، ويسعى لمواجهتها، هي الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة، وقد قامت عدة مدن جديدة، كما اتسعت مدن قائمة، وزاد عدد سكانها بشكل مفرط مثل شنجهاي وبكين، ولا شك أن الانتقال إلى الحياة المدنية والصناعية يخلق بيئة اجتماعية تختلف عن البيئة الزراعية السابقة، فأصبح المرء يقضي وقته في السعي الحثيث لجلب لقمة العيش لمواكبة تطور متطلبات الحياة الجديدة والانتقال من استهلاك المواد اللازمة للبقاء مثل الغذاء وبعض الملابس البسيطة، إلى طلب أوسع وأرحب، والعمل على اقتناء أفضل ما هو متاح في السوق من مركبات وملابس، وغير ذلك، وأيضاً السكن في مساكن ملائمة، حتى وإن لم تكن ذات اتساع كما في الريف لكنها تحتوي على ما يحتاج الإنسان مثل التدفئة والتبريد أو أجهزة الطهي وغيرها.
لقد توقفت في عام عشرين وستة عشر سياسة الاقتصار على إنجاب طفل واحد، ومع ذلك فإن عدد السكان لم يزدد بل وصل إلى حد النقصان في عام عشرين اثنين وعشرين، وذلك يعود في المقام الأول إلى عزوف الصينيين عن الزواج، كما أن المتزوجين لم تعد لديهم رغبة في إنجاب الأطفال حتى وإن كانت الدولة تسمح بذلك، ولا شك أن ذلك يعني زيادة في عدد من هم في سن التقاعد، وعندما تزيد الشيخوخة ويقل العنصر الشبابي، فإن ذلك سيكون له أثر على الإنتاج الاقتصادي للبلاد مما يؤثر على إجمالي الإنتاج الوطني السنوي.
علينا أن نعرف أن الصين ليست الوحيدة التي انخفض بها عدد السكان، فهناك دول عديدة مشابهة، فاليابان انخفض عدد سكانها بنحو ستمائة وخمسين ألفاً، وهي نسبة تفوق الصين بكثير، وأيضاً هناك فرنسا وألمانيا وفنلندا، وغيرها، ولاشك أن نمط الحياة، وحضور ثقافة جديدة تتعلق بالزواج، سوف تعمل على انخفاض عدد السكان في كثير من الدول.