رضا إبراهيم
مثلت قضية الأمن الغذائي بالذات، هاجساً إستراتيجياً كبيراً بالنسبة لكثير من دول العالم، الساعية إلى ضمان أسواق غذائية آمنة ومستقرة لشعوبها، إلا أن السياسات والوسائل المتبعة في كل دولة، من الضروري أن تأخذ بعين الاعتبار وجود ما لديها من موارد طبيعية لتحقيق الأهداف المرجوة، ولازدياد أهمية الأمن الغذائي في تحقيق الأمن القومي حالياً، ظهر جلياً احتكار الدول الكبرى لجزء كبير من فوائض إنتاجها الزراعي والغذائي، واعتبار ذلك سلاحاً يخدم سياساتها وأغراضها في الأوقات المناسبة.
هذا، وقد صنفت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «فاو» عام 2014 منطقة «الشرق الأوسط»، باعتبارها أولى المناطق العالمية التي يزداد فيها عدد من يعانون من نقص التغذية، لكن الأمر ذاته بالنسبة للمملكة العربية السعودية ومنذ عقود عدة كان له أبعاد أخرى، حيث إن الزراعة بالمملكة تميزت قبل فترة السبعينيات، أي قبل بداية العمل على تنفيذ أول خطة للتنمية عام 1970م بقلة حجم الحيازات الزراعية وتناثرها، وعدم استقرارها في منطقة واحدة، لاعتماد الزراعة في تلك الفترة على الآبار ومياه الأمطار وتنقلات البادية المستمرة، كما كان خبراء الزراعة وقتها يعتمدون على الأساليب البدائية في الري والتسميد والحصاد والتعبئة، لذلك أصبح الإنتاج الزراعي محدوداً سواءً من ناحيتي الكم أو النوع.
ومع بدء خطط التنمية عام 1970م، شهد القطاع الزراعي في السعودية الكثير من التغيرات الهيكلية، التي واكبت الأهداف الإستراتيجية للخطط التنموية للقطاع الزراعي، وذلك من خلال الوصول إلى تغييرات حقيقية في البني التحتية الاقتصادية، عبر تنويع قاعدة الإنتاج لزيادة الإنتاج الزراعي، وإيجاد طرائق التوسع الأفقي والرأسي، والتركيز على الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والمحافظة عليها، وكذلك تحسين كفاءات الاقتصاد والتسويق الزراعي والرقي بمستوى معيشة سكان المناطق الريفية، وكلها أهداف لم تكن لتتحقق سوى بإتباع الخطط والسياسات الزراعية الإيجابية.
وبجانب ما قدمته من دعم مباشر للقطاع الزراعي، قدمت الحكومة السعودية دعماً غير مباشر، شمل تقديم خدمات زراعية مساندة وفي غاية الأهمية للعملية الإنتاجية، أهمها خدمات الإرشاد الزراعي ووقاية المزروعات، والخدمات البيطرية وخدمات البحوث الزراعية، إضافة إلى الاهتمام الواسع بتنمية الموارد البشرية، وتعبيد الطرق في مختلف المناطق بالمملكة، لاعتبار الطرق البرية من أهم سُبل ربط مناطق الإنتاج بالاستهلاك.
وفي خطة التنمية الزراعية الثانية (1975 - 1979م)، زاد توسع المملكة في الإنفاق الحكومي على القطاع الزراعي، كأداة مثلي لتنفيذ برامج التنمية الزراعية، وقد لوحظ في الخطة الثانية وما تبعها من خطط متعاقبة الطفرة الكبيرة في مجال الاستثمارات الموجهة للقطاع الزراعي، حيث صاحب الخطة الثانية موجة عالمية تمثلت في التضخم، الأمر الذي دعا الحكومة السعودية إلى توجيه أولوية جهودها لمواجهة آثار ذلك التضخم، مع تبني سياسة هادفة إلى تقديم الإعانات الزراعية للمنتجين والمستهلكين على حد سواء، من خلال قيام البنك الزراعي العربي السعودي بتقديم قروض ميسرة (دون فائدة) لمُدخلات الإنتاج الزراعي، بجانب تقديم إعانات وصلت إلى نحو (50) بالمائة من تكلفة المعدات والآلات الزراعية، لتعزيز دور القطاع الخاص في الإنتاج الزراعي.
تبعها قيام البنك الزراعي العربي السعودي، بتنفيذ سياسة التمويل من المشروعات الاستثمارية الزراعية المتخصصة، بهدف تحويل الزراعة السعودية من الوسائل البدائية وزراعة الاكتفاء الذاتي إلى الزراعة التجارية، المتمثلة في قيام مشروعات كبيرة الحجم نسبياً، والمعتمدة في أساس تكوينها على التقنيات الحديثة للاستفادة من اقتصادات السعة أي «وفرات الإنتاج»، لأنه كلما زاد حجم الإنتاج قل عبء التكاليف الثابتة وانخفض متوسط الوحدة المنتجة، ومن ثم زادت أرباح المزارعين في المجالات كافة، وأولها قوة تنافسهم في السوق.
بجانب العديد من المشروعات الأخرى، المتمثلة في إنتاج الدواجن والبيض والألبان والحبوب والأعلاف وتسمين الأبقار وتربيتها، كما تبنت وزارة المالية والاقتصاد الوطني عبر العديد من الخطط التنموية، سياسة تقديم إعانات سعرية إلى عدد من المواد الغذائية، من أهمها «الأرز والدقيق والحليب والزيوت النباتية واللحوم المبردة والمثلجة» والأعلاف اللازمة لتغذية الثروة الحيوانية بهدف تعزيز الأمن الغذائي، وتخفيف الزيادة في أسعار تلك السلع.
وسرعان ما ظهر الأثر التراكمي لخطط التنمية بالمملكة، المعتمدة على الأمن الغذائي بشكل محوري في معدل الاكتفاء الذاتي وكمية استهلاك الفرد من مختلف الأغذية، ليظهر أن استهلاك الفرد السنوي من اللحوم قد زاد من (11.3) كجم في عام 1970م إلى (47.7) كجم في عام 2003م، وهو استهلاك مَثَّل ما نسبته (322) بالمائة، الحال نفسها زاد استهلاك الفرد السنوي من الفواكه والخضراوات والألبان إلى أضعاف مماثلة.
ولم تكتفِ المملكة بما حققته بالاكتفاء الذاتي في الأمن الغذائي لشعبها، بل امتدت إستراتيجيتها وعبر توجيهات حكومتها إلى مساعدة العديد من الدول العربية الإفريقية، ففي دولة السودان كمثال واضح، استثمرت المملكة العربية السعودية عام 2021م بتكلفة (850) مليون دولار مشروع «جبل مرة» للتنمية الزراعية، مع تشييد منشآت حصاد مياه لزراعة الذرة والفول السوداني والفواكه، كما تضمنت أيضاً مشروعات المملكة في البلد الإفريقي الشقيق، مجمعاً متكاملاً لصادرات اللحوم الحمراء والمنتجات الحيوانية في ولايتي (كردفان ونهر النيل) بمساحة مليون فدان بتكلفة (700) مليون دولار، إضافة إلى مشروعات الاستزراع السمكي وإنشاء مجازر آلية حديثة ومجمعات لإنتاج السكر، وفيما يخص مجال الري شُيِّد مشروع «أعالي عطبرة» الزراعي ومشروع ري «شرق الرصيرص».وبالعودة إلى إستراتيجية الأمن الغذائي بالمملكة وخطط تنفيذها، كانت موافقة مجلس الوزراء في عام 1439هـ بعد مجموعة توصيات تم إعدادها في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ليظهر ما حققته المملكة من تقدم كبير في ذلك الأمر، فسرعان ما ظهرت التقارير الراصدة للتقدم في نسب الاكتفاء الذاتي في العديد من السلع الغذائية الإستراتيجية، ومنها ما أوضحته البيانات الرسمية بالمملكة من بلوغ نسبة الاكتفاء من التمور إلى نحو (125) بالمائة، ومن الخضراوات (87) بالمائة.
وكان لمحصول القمح على وجه الخصوص أكبر جانب من جوانب الاكتفاء الذاتي، فعلي الرغم من ارتفاع استهلاك الفرد السنوي بالنصف الأول من القرن الواحد والعشرين بما نسبته (80) بالمائة، وزيادة استهلاك المملكة الإجمالي نتيجة للنمو السكاني الكبير الذي حدث في العقود الثلاثة الأخيرة، إلا أن الاكتفاء من القمح ارتفع أيضاً في تلك الفترة إلى نحو (111.2) بالمائة، كما حققت المملكة أيضاً اكتفاءً ذاتياً من المحاصيل الزراعية الإستراتيجية، أهمها الخضراوات والفواكه، بل ووصل الاكتفاء إلى معدلات كبيرة جداً قاربت بل وتجاوزت في بعض الأحيان معدلات استهلاك الفرد في الدول المتقدمة.
وفي الوقت الذي عانت فيه معظم الدول من أزمة عالمية في الموارد الغذائية، كانت السعودية في مستوى عالٍ من القدرة المعززة لأمنها الغذائي وجودته وتوافره بأسعار مناسبة، ما يعني نجاح المملكة في تجاوز الاضطرابات العالمية، الناتجة عن ضعف سلاسل إمدادات الغذاء في العالم، ففي شهر يوليو عام 2022م خصصت المملكة نحو (4.5) مليار ريال بميزانية المؤسسة العامة للحبوب لدعم المخزونات الإستراتيجية لمنتجي القمح والشعير، مع تعويض المستوردين، بجانب تخصيص مبالغ مالية وصلت إلى (4.2) مليار ريال بميزانية صندوق التنمية الزراعية لإقراض القطاع الخاص.
وتمويل تعاقدات تعمل على تغطية احتياجات المملكة لمدة تصل إلى (6) أشهر من السلع الرئيسة كـ»الذرة والشعير وفول الصويا»، وتخصيص دعم إضافي يصل إلى (800) مليون ريال لبند الإعانات المقدمة إلى المنتجين، ولا يسعنا الآن الحديث عن الخطط كافة التي اتخذتها الحكومة السعودية في مجال القطاع الزراعي، لكن في الإمكان ذكر ما أكده تقرير الأمن الغذائي العالمي الصادر عن وكالة تحليلات المعرفة المتعمقة بمنتصف عام 2022م، على أن المملكة العربية السعودية من أولى دول الخليج العربي، التي امتلكت القدرة على الوصول إلى الاستدامة في مجال توفير الغذاء.