م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. المفكرون قلة في كل مجتمع، وعلى قلتهم فلا اتصال بينهم.. كلٌ مشغول بنفسه، مُنكبٌ على عمله، يُعاني من ضعف الاتصال والتعبير عن الذات.. كل ما يشغله أمور خارج ذاته، رغم أنه يشتكي من مشاكل شخصية عميقة لا يدري كيف يعالجها، أو الحلول لها.. لذلك فهو يلهي نفسه بعمله وبحثه وأفكاره التي يراها أهم من مشاكله الشخصية.
2. المفكر في حقيقة الأمر الواقع إنسان ضعيف خارج نطاق فكره، لا يعرف كيف يحمي نفسه ناهيك عن أن ينفعها.. وكلما أحس بالأذى تقوقع على نفسه أكثر، واستغرق في عمله وابتعد عن محيطه أكثر.. لذلك هم دائمًا يشعرون بالغربة، وتعلو في نفوسهم روح الدهشة من هذا العالم الذي لا يفكر كما يفكرون ولا يفهم أفكارهم.
3. المفكرون (غالباً) أناس محدودو الإدراك للحقائق الحياتية البسيطة التي يدركها أبسط الناس، بل إن بعضهم تحس أنه غير متزن عقلياً.. وأستطيع أن أُشَبِّه عقولهم بالمساحة التي تعاني من سوء توزيع في الإضاءة عليها بالتساوي.. فتجد مساحات مُعتمة تكاد تكون بلا إضاءة، وتجد مساحة أخرى شديدة الإضاءة تكاد تعمي البصر من شدتها.
4. مشكلة المفكر أنه يعتقد أن العقل والتفكير المجرد سمة عامة في البشر.. فحينما يفكر خارج نطاق التوجه السائد يدهش حينما يُوَاجَه فكره بالرفض دون فهم.. لذلك ينزوي على نفسه ويبدأ في لومها.. ثم يتحول إلى النقيض فيرى أنه يعلم ما لا يعلمون، ويضع نفسه في برج عاجي يُقيم فيه وحده، إلى أن يُهيئ الله له في حياته أو بعد مماته من يلتقط هذه الأفكار ويضعها موضع التطبيق.. وهنا تبدأ العامة في فهم ما كان يقول ذلك المفكر الذي كانوا يظنونه معتوهًا.
5. الأفكار العظيمة في أصلها هي أفكار مجردة، أشبه بحجر الألماس الذي لا يعرف الناس قيمته إلا بعد صقله ووضعه موضع الاستفادة العملية في مجالات المخترعات والابتكارات والتقنية والإنتاج والعلوم النفسية والإدارية والاتصالية.. فالأفكار الكبيرة في أصلها غير محسوسة، وهي خارج نطاق استيعاب عموم الناس، إلى أن يتم تحويلها إلى منتجات ملموسة.. وهذه يتم الاستفادة منها دون الحاجة إلى معرفة أو حتى الاكتراث لمعرفة الفكرة التي وراءها.
6. لا غرابة في أن الصورة العامة التي ينشرها الإعلام ويتداولها العامة عن المفكر والعَالِم هي صورة لشخص غريب الأطوار، كأقل ما يُقال عنه.. أو الشخص المعتوه الذي يعاني خللاً في عقله، حتى صارت من الأقوال السائدة قولهم: الجنون فنون، وأن الفرق بين الجنون والعبقرية شعرة.. إلخ.. بمعنى أنه تم ربط الإبداع والمبدعين بالجنون وأنهم أشخاص غير طبيعيين.. من هنا فهم يحسون بالغربة لأنهم أشخاص غير مفهومين من المحيط الذي يعيشون وسطه.
7. المفكرون وإن كانوا أفرادًا مميزين إلا أن كونهم أقلية يضعهم موضع الضعف والاستهداف من الأكثرية.. بعضهم بسبب سوء الفهم، ومنهم بسبب الغيرة أو الاستفزاز الذي يثيرونه لدى الناس.. فالمفكرون في كل ميدان لديهم شغف لا يتفق مع شغف العامة.. شغف يوحي بأن فيهم كِبْراً وغروراً وفوقية ومحاولة لجعل الآخرين يبدون إما ضعافًا أو جهلة.. ومما يزيد النفور منهم أنهم لا يستطيعون الاندماج مع محيطهم، ولا يمارسون ذات الاهتمامات التي يمارسها أو يهواها عموم الناس.. وأنهم يوحون للآخرين بالاهتمام بالقضايا الكبرى لأنهم كبار، أما البقية فهم مشغولون بالقضايا الصغرى، لأنهم صغار!
8. المفكر هو شخص شديد الملاحظة في موضوعه، ويلفته ما لا يلفت غيره.. وإذا لفت نظره أمر ما بدأ بإثارة الأسئلة والبحث عن إجاباتها، ومن كل عشرة أسئلة أو ألف سؤال يثيره المفكر يجد الإجابة عن واحد أو اثنين منها.. وحتى إجابة السؤال أو السؤالين قد تثير المزيد من الأسئلة.. فالمفكر في حالة سؤال دائم، كل سؤال يُوَلِّد أسئلة وهكذا.. وهو لا يكتفي بالانشغال بإجابة الأسئلة التي يثيرها، بل ينشغل بمحاولة إجابة الأسئلة التي يثيرها المفكرون الآخرون.. وهو ذات الشيء الذي يفعله المفكرون الآخرون تجاه الأسئلة التي يطرحها.
9. المفكر يلفت النظر ويثير الانتباه ويحفز من لديه الرغبة والقدرة على إيجاد الحلول، من هنا تأتي تلك التطبيقات النافعة للبشرية.. فالمفكر لا يأتي بالحلول، بل يجتهد في البحث عنها.