عبدالوهاب الفايز
من منكم يتذكّر هذا المثل الشعبي الذي يفيض بالمعاني: (غذ جريك ياكلك!).. (جَرْو: صغير الكلب والسَّبُع)، وهو ما قد تلخصه أيضاً هذه الأبيات:
أكلت شويهتي وفجعت قلبي
وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذيت بدرها ورضعت منها
فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء
فلا أدب يفيد ولا أديب
وهنا نسوق هذا المثل حتى نقرب الصورة الذهنية لما نود الحديث عنه، وهو: التواصل الاجتماعي!
هذا العملاق نما وترعرع في أحضان الكيانات الكبرى، حكومية أو خاصة، أو أهلية، وطفرة التواصل الاجتماعي وتنوع أدواتها غذاه الضخ المالي والدعم السياسي الذي حصلت عليه، فبلايين الدولارات تُضخ سنوياً عالمياً. فقط، في أمريكا بلغ الإنفاق على الإعلان 170 بليون دولار، وفي العام القادم سوف يصل 200 بليون دولار، وفي الصين بلغ 80 بليون دولار. كل ذلك لزيادة المتابعين وتوسيع الأثر والتأثير، وهذا فتح الباب واسعاً لدخول لاعبين جدد لم يكن متاحاً لهم مخاطبة الوجدان الشعبي مباشرة، وتحقق لهم الثراء من إذكاء الغضب، والخلاف والخوض في أمور كانت متروكة لأهل الحل والعقد والحلم والعلم، وهذا يذكِّرنا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حول السنوات الخداعات التي (يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ، ويخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَةُ. قِيلَ: وما الرُّويْبِضةُ؟ قال: الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامةِ).
وما أكثر الرويبضيين القاعدين عن العمل ممن يستعذبون الكلام المفلوت الرخيص، ويفتون في كل أمر!
وهذا (الجرو) الوديع كبر وكبرت معه غريزته الأساسية، والتواصل الاجتماعي يقدم على أنه أكبر المهددات للأمن والسلام الاجتماعي. فوسائل التواصل الاجتماعي تعيش وتزدهر من إذكاء النزاعات والخلافات، وتستثمر الجانب المظلم في الطبيعة البشرية. نموذج عملها التجاري يقوم على ضرورة الاستمرار في إشعال الخلافات والنزاعات، والآن نجد الشركات العملاقة في التواصل الاجتماعي والألعاب تقفز وتتضاعف استثماراتها بسبب نجاحها وتفوقها في تنمية المحتوى الإعلامي والتواصلي المشحون بنزعات العنف والخلاف، والانشقاق عن المجموعة.
لقد أعطت الأفراد القدرة على الاحتجاج والهجوم والانتقاد في أي وقت وبأقل جهد ومساحة، سواء عبر المحتوى المباشر، أو عبر الإعجاب والمشاركة، بدون الحاجة إلى تقديم الحجج والبراهين. هذه الأسلحة النارية الاجتماعية وسعت وسهلت للجماعات المتطرفة ولأصحاب الأفكار الشاذة القدرة على الوصول إلى القاعدة العريضة من الناس، وبالتالي (اختراق الوجدان الشعبي)، وهذا يجعل هؤلاء مصدر قلق للحكومات، بالذات مخاوف أجهزة الأمن القومي.
مدير الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز في لقاء إعلامي نادر قبل شهر مع جودي ودروث، من شبكة PBS العامة، أبدى المخاوف من وسائط التواصل الاجتماعي ويرى أنها خطر على الأمن القومي، ويرى (تيك توك) وسيلة تجسس وجمع معلومات للحكومة الصينية لاستهداف الأمن الأمريكي من خلال تأثيرها على صياغة المحتوى وتوجيهه ليخدم مصالح القيادة الصينية. ورسالته للآباء والأمهات: كونوا حذرين من تك توك. (لو أن رئيس جهاز استخبارات أو أمن عربي قال هذا الكلام عن تطبيقات الشركات الأمريكية التي تجمع المعلومات عن الشعوب لاتهمه الإعلام الغربي بتجاوز حقوق الإنسان، والتدخل في خصوصيات الناس.. وغيرها!).
الغريب المثير هو مخاوف الخبراء من (بناء الجهل) للأجيال القادمة. في مجلة الاتلانتك الأمريكية، في عدد أبريل 2022، نشر جوناثان هايدت، عالم نفس اجتماعي في كلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، مقال عميق في التحليل للظاهرة الجديدة بعنوان: (لماذا كانت السنوات العشر الماضية من الحياة الأمريكية غبية بشكل فريد؟). يرى أن بنادق السهام المخدرة لوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تمنح المزيد من القوة للمتصيدين والمحرضين مع إسكات المواطنين الطيبين. وانعكس هذا على مؤسسات التعليم والتشريع، فأعضاء الكونجرس أصبحوا أكثر حذراً وأقل رغبة في إبداء الرأي خوفا من هجوم المتطرفين الاجتماعيين والسياسيين.
يرى هايدت أن هذا الخوف رُصد على سلوك أعضاء من المؤسسات الأمريكية الرئيسية في النصف الأخير من عام 2010. لقد أصبحوا، حسب رأيه، أكثر غباءً بشكل جماعي لأن وسائل التواصل الاجتماعي غرست فيهم خوفاً مزمناً من الاندفاع للفضاء السياسي العام. ويعتقد أن (هذا التحول أكثر وضوحاً في الجامعات والجمعيات العلمية والصناعات الإبداعية والمنظمات السياسية على كل المستويات (الوطنية والولائية والمحلية)، وكان منتشراً لدرجة أنه أنشأ معايير سلوكية جديدة مدعومة بسياسات جديدة تتطور بين عشية وضحاها). ويلاحظ أن التواجد الجديد لوسائل التواصل الاجتماعي المُعزّزة لمواقف معينة يعني أن كلمة واحدة ينطق بها أستاذ أو قائد أو صحفي، حتى لو تم التحدث بها بنية إيجابية، يمكن أن تؤدي إلى عاصفة نارية في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يؤدي إلى فصل فوري أو تحقيق مطول من قبل المؤسسة.
وهذا تكشفه حالة رونالد سوليفان الأستاذ في كلية القانون بجامعة هارفارد والذي كان من ضمن فريق الدفاع عن (هارفي وانستين) في قضية التحرّش الجنسي. طلاب القانون في هارفرد، المعترضون على اشتراكه في فريق الدفاع، طالبوا بإقالته بدون الاستماع لرأيه ودفاعه عن موقفه، مهما كان محموداً أو مذموماً. أي أنهم كانوا غير مهتمين بتحقيق العدالة رغم أنهم طلاب قانون! هذه الروح العدوانية سوف تؤثّر على روح المبادرة للعلم والاستثارة العقلية، وتنمي بناء الجهل.
وهنا خطورة التواصل الاجتماعي عندما تستجلب روح القطيع، والأخطر عندما توقظ الروح العدوانية في الطبيعة البشرية، فهذه عندما تتجلّى بصورتها المقلقة والمدمرة، فهي تتيح وتُشّرع استخدام كل ما هو متاح للتلاعب بالمشاعر والأفكار، والتمترس خلف المفاهيم المتفجرة والخلافية. أصبحت أداة فعّالة لتضخيم الاستقطاب السياسي، والتحريض على الشعبوية، خاصة الشعبوية المتطرفة؛ وتخدم انتشار المعلومات المضللة.
كنا نقول: لا تجعل الإعلام (بصورته التقليدية المتواضعة طبعاً) يدخل بيتك لأنه سوف يشغلك لاحقًا إذا لم تكن مستعدًا للتعامل معه وترويض غريزته للبحث والتنقيب والانتقاد. وها هو الإعلام الجديد العملاق المتمرد يدخل كل جزء في البيوت، فكيف يُروّض ويُخرج؟ ما أصعب الإجابة!