قرود الطائف أو كما كانت تسمى قديماً بقرود كرى أو السعدان موجودة ومستوطنة منذ زمن بعيد وهي ليست حديثة عهد في هذا الجبل وقبل افتتاح طريق الهدا للسيارات، وقد أشار إلى ذلك الأديب والشاعر الراحل الشيخ أحمد إبراهيم غزاوي رحمه الله في إحدى شذراته التي كان ينشرها بمجلة المنهل فقال: هذه الظاهرة شهدناها ولابد من تدوينها وهي أن (عقبة كرى) التي مهدت من أسفل (الكر) إلى أعلى قمة (الهدا) كانت مشهورة بانتشار (القرود) في جميع مدارجها بشكل بارز معروف حتى ليضرب المثل بها في أوساط البادية والحاضرة، وكانت تؤذي الصاعدين على الأعيرة أو الأحمرة السود بقذفهم بالأحجار والالتفاف حولهم (والضحك عليهم) وأخذ الخناق عليهم من كل جانب، حتى إذا لعلعت في الطريق كله أصوات الألغام ودوت أو دمدمت فيها الدركترات الضخمة وتفجر في أصلادها وصخورها البارود واقتحمها الحديد، فطوعها للسيارات لم تجد تلك القرود على اختلاف أحجامها بداً من الهجرة منها تفادياً من الازعاج وهرباً من الموت واغلب الظن أنها إنما تحولت من مناطق (كرى) إلى ما حوله من الجبال الجنوبية غير المطروقة أو إلى (يعرج) و(ريع الشرى) وكفى الله السالكين شرها وبعد ان ظلت قروناً طويلة تحتل الشعاف وتعبث بالضعاف، وهي إحدى حسنات التمهيد التي اخضعت هذا الطود العملاق العنيد ليكون اقصر طريق إلى (المصيف الأنيس) فما عدنا نسمع أو نرى فيه اثراً لهذا الحيوان الشغوب لا رد الله غربته.
ورغم انحسار واختفاء ظاهرة قرود السعدان (البابون) كما أشار إليها الشيخ أحمد الغزاوي في فترة من الفترات إلا أنها عادت مرة أخرى للظهور بعد اكتمال تعبيد طريق الطائف مكة المكرمة عبر جبل كرا فاستأنس الناس والزوار والمصطافون عند قدومهم للطائف (قرود البابون) وخاصة في أعلى قمة جبل كرى حيث تتواجد بكثرة، وأصبحت منظراً مألوفاً ومسلياً وخف أذاها عن الناس بعد أن وفروا لها أطايب الأكل والطعام وأصبحت لا تبذل أي مجهود في ذلك وتعود مع حلول المساء إلى جحورها إلا أنها عادت لإيذاء أهالي الهدا بعد أن أقفل جبل الهدا لتوسعته عدة سنوات وهو ما دفع الزميل والصديق الباحث البيولوجي بمركز أبحاث الطائف للحياة الفطرية الأستاذ أحمد البوق مدير المركز فيما بعد والذي استفاد من إغلاق جبل كرا لإجراء دراسته البحثية على قرود البابون كجزء من أبحاثه لمرحلة الماجستير عام 1986م إلى جانب فريق البحث الفرنسي بهدف معرفة سلوكياتها وأسباب عدوانيتها وكيفية القضاء على هذه العدوانية وعدم الحاق الضرر بالمصطافين والعابرين لطريق الهدا، ومكث في إعداد هذه الدراسة أكثر من عام كامل كان خلالها ينام عدة أيام في جبل الهدا برفقة معداته ومعاونيه، وتمت متابعة تحركاتها وتنقلاتها بواسطة اجهزة التعقب اللاسلكي والاستشعار عن بعد.
ويحدد الباحث أحمد البوق في دراسته تلك اهم أسباب انتشار وتكاثر قرود البابون وهجومها على الإنسان والمزارع فيقول: جاء ذلك نتيجة التجني الحاصل على الغطاء النباتي في السعودية والرعي الجائر وزيادة عدد الأغنام مما أدى إلى تدمير الغطاء النباتي وعدم قدرة المرعى على التجدد، وتسبب ذلك في تناقص غذى هذا النوع من القرود فبدأت تبحث عن البديل في المزارع والمدن والنفايات والطرقات العامة إلى جانب مشكلة الاحتطاب الذي تسبب هو الآخر في تناقص الغذاء البري للقرود إضافة للتنمية العمرانية وزحف المدن على ماؤى القرود ووصول الطرق إلى أماكن عديدة في الجبال والمرتفعات التي كانت صعبة المنال، وكذلك قتل المفترسات مثل النمور والضباع والذئاب والوشق وغيرها من الحيوانات المفترسة التي كانت تتغذى على القرود وتعمل على حفظ توازن هذه الأنواع وتحدد أماكن وجودها، وقد استهدف الإنسان هذه الحيوانات المفترسة لأنها أيضاً تسبب العديد من المشاكل إلا أن تناقصها أدى إلى تكاثر القرود، إضافة لتكاثر النفايات التي تولدت من آلية الاستهلاك المرتفع مما زاد من حجم النفايات في السعودية وخاصة المدن الكبرى، وتشير المسوحات الإحصائية إلى وجود خلل فسيولوجي لدى هذه الفئة من القرود التي تعتمد على النفايات في تغذيتها حيث وجد أن نسبة هذه الولادات لدى هذه القرود تزيد بينما تقل نسبة الوفيات في المجموعات البرية تصل في العادة إلى 90 % قرد للمجموعة، أما القرود المستأنسة في مرمى النفايات وفي مناطق دراسة المشكلة وصلت اعدادها إلى (1500) قرد مما يجعلها ذلك كقنبلة موقوتة ويمكن أن تزحف على المدينة وتسبب الكثير من المشاكل، ويختتم البوق حديثه عن أسباب كثرة القرود إلى قلة الوعي البيئي لدى المواطنين إذ إن تغذية الناس لها ساهم في تغيير سلوكيات هذه المجموعات وزحفها نحو المدن وتحولها من مجموعات برية إلى مستأنسة، وتظل تنتظر الناس لتغذيتها وإذا لم تحصل على الغذاء زحفت لأقرب المزارع أو المساكن مثل مجموعة الهدا بالطائف وعقبة ضلاع وعقبة الباحة.
ويرى الباحث البوق بأن الحلول المقترحة لحل هذه المشكلة لابد أن تأخذ مسارين الأول يتجه للأسباب التي أدت للمشكلة وحلول أخرى لمعالجة الظواهر المترتبة على المشكلة ولأن المشاكل البيئية مشاكل متداخلة وهو ما يتطلب تعاون كافة الجهات والوزارات ذات العلاقة مع بعضها ومع الهيئة الوطنية للحياة الفطرية لإيجاد الحلول والخطوات المناسبة لحل هذه المشكلة.
وعن تجربة تعقيم ذكور البابون التي قام البوق بإجرائها ضمن دراسته قال بأنها كانت كأحد الحلول الموضوعة لمعالجة المشكلة وخفض تكاثر قرود البابون المستأنسة عن طريق صيد المجموعات ثم تعقيم الذكور والإناث، وبطريقة تعقيم كيماوي لتحقيق ضمور الخلايا المغذية للتكاثر دون أن يؤثر ذلك على نشاط الذكر وحتى لا يفقد ذكورته ويستطيع التحكم في الإناث من حوله، ومن أجل المحافظة على سلوكياته، ونجحت هذه التجربة لمدة اربع سنوات واحتفظت الذكور بإناثها دون نتائج جانبية.
** **
mishaalalh94@gmail.com