أحمد يوسف
«الخيال ليس فقط قدرة الإنسان بنحو فريد على تصوُّر ما لا يُتصوَّر، هو منبع لكلّ اختراع وابتكار، ربما في قدرته التحويلية والوحي الذي يُمثّله، هو القدرة على تمكيننا من التعاطف مع البشر الذين لم نتقاسم الخبرات معهم أبداً» جيه كي رولينغ
كتبت جيه كي رولينغ أول أعمالها في سن الحادية عشرة، أول رواية لها في تلك الفترة العمرية الصغيرة، لطالما فكرتُ في الحافز الذي جعلها تجلس لساعات وأيام وأسابيع، كي تكتب رواية عن «سبعة ماسات ملعونة»، ورحلة في القطار كانت بداية الشرارة لإطلاق العنان لمخيّلتها لكتابة رائعتها «هاري بوتر».
ليس للخيال حدود، أتخيّل نفسي في الفضاء الخارجي، حيث انعدام الجاذبية أتقوقع على نفسي، وأتمايل في حركة بطيئة، فاقداً التحكم في حركتي، لكنني، وعلى الرغم من حالتي البائسة تلك، فأنا أتمالك نفسي وأستعد للقفز من هذا العلو الشاهق إلى الأرض، هكذا ببساطة، وما بينهما لا يُشكّل عائقاً، كلّ ما يهم هو أنني قررتُ القفز، وسأسقط واقفاً على قدمي!
شيء من الجنون، لا يمكن حدوث مثل هذا، أعرف ذلك، لكنها لعبة الخيال، يمكنك في هذه اللحظة أن ترتدي سترة رائد فضاء، تخرج من مركبتك التي هبطت للتو على سطح القمر، لتطير مثل ريشة، تتأرجح، لا تملك سيطرة على حركتك، وكأنّ العالم يحملك بذراعيه ليرحب بك.
يغوص الخيال بداخلي ليكتشفني، من أنا؟ ليتعرَّف على هذا المجهول بأعماقي؟ من أتى بك؟ وكيف تجرأت للوصول إلى هنا؟!
كيف يمكن للكلمات أن تُطلق مُخيّلتك؟
ليس مهماً أن يكون المكان الذي أقف فيه يُمثِّل شيئاً واقعياً، يمكنك أن تتخيل الصحراء بحر هادر تتلاطم أمواجه العاتية، مثل سياطٍ تلسع كلّ من يحاول الاقتراب منها، بينما تقف على ظهر سفينةٍ عملاقة، أو قاربٍ صغير، الأمر سيان، تواجه العواصف، والأمطار الغزيرة، وتتمايل السفينة مثل شيخٍ طاعنٍ يتهادى بمشيته خوفاً من السقوط، جنون هذا الذي يصنعه الخيال، بداخلنا، صناعته بمخزون الكلمات التي لا ترتوي، ولهذا يمكن للخيال أن يخلق عالمك الخاص، ويقتحمك.
ويمكنه أن يعكس واقعك الذي تعيشه، في رواية «المسخ» لفرانز كافكا، دليلٌ على أهمية الخيال الذي سيطر على الكاتب، لقد حوّل بطل القصة «جريجور سامسا» إلى مسخ، من إنسان إلى حشرة ضخمة، «استيقظ جريجور سامسا ذات صباح على أحلام مثيرة للقلق، إذ وجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة هائلة فظيعة».
كانت روايته تعكس ما يدور في عقله عن نفسه، في ظلّ وجود رأسمالية متوحشة، والتي لا تعطي بالاً للعلاقات البشرية الإنسانية، ممثلة بعائلة جريجور، التي تنظر إليه من حاجتها المادية فقط، وأنه أصبح عبئاً عليهم عندما توقف عن العمل، والتفكير في التخلص منه.
حتى في أكثر الأوقات سوداوية يمكن للخيال أن يعكس صورتك تجاه ما تشعر به وما تُحسّه في مجتمعك، وقد تُصيب أو تخطيء، لكنها الأداة التي عكست حياة الكاتب، فهو يتألم، وسيبقى بعدها يتألم، هكذا كان ينظر لنفسه.
كيف يحدث ذلك؟
أن تكون مدمناً، لقراءة الكتب، تقرأها بنهم، وشغف، منذ أن كنتُ على مقاعد الدراسة في المرحلة الإعدادية، كان الكِتاب رفيقي، جميع الكُتب التي احتوتها مكتبة أبي، كانوا أصدقائي، ولم يكن يحلو الجلوس إلا بجوارها، استشعرت بجمال هذه اللحظات، تكوّنَ نوعٌ من العلاقة الحميمية، أصبحتُ أستنشق الكلمات وألتهمُ الكُتب.
يمكنك بالقراءة أن تعيش أعماراً مديدة، وتلتقي أشخاصاً في غير عَصرِك، تتجاذب معهم الأحاديث الودية، تستمع وتستمتع، ترتشف كوباً من القهوة بحضرتهم، وتتجلى أُبهة المكان الساحر، وتحتضنه.
جرب أن تقرأ كتابين، ثلاثة، أو أربعة، في نفس الوقت، أنا أتحداك أن تفعل ذلك، أثارتني الفكرة، عندما سمعتها من الكاتب «أمير تاج السر» للمرة الأولى، كنت أعتقد أنه لابد أن نُبقي تركيزنا على كتابٍ واحد فقط، قلت لنفسي: «سأفعلها»، وبالفعل، وجدتُ متعة قلّ نظيرها -على الأقل بالنسبة لي- شيء من الجمال الذي لا يمكنك أن تُقاومه، بمجرد إبحارك إلى عوالمك الجديدة، ستكتشف سحراً لا يمكنك الفِكاك منه.
الكلمات التي تقرأها، تُشكّل فخاً تجذبك إليها، وتمنعك من الذهاب بعيداً، تدفعك لتوليد المزيد من الخيال، وتتزاحم هذه الكلمات المُتراصة لتُشكّل جُملة، تُعرّفك أشياء لم تسمع بها، تنبهر، وكأنك تقرأها للمرة الأولى، كأن يُمسك أحدهم كتفيك ويهزّك بعنف كي تستيقظ من غفلتك، وتنتبه للرسائل التي ترِدُك عبر هذه الكلمات، لتُشعل جذوة نارٍ مُلتهبة في أعماقك، وتنتفض.
الخيال يجعلك مستكشفاً في أدغال إفريقيا الجميلة، تستكشف عاداتها، وأحلامها التي لم يُكتب لها الحياة بعد، الخيال يجعلك قائداً عظيماً لجيش عرمرم، تتعالى فيه أصوات المحاربين، ساحة المعركة مُكتظة بالخوف والموت، أو ربما يجعلك الخيال شخصاً بسيطاً، يعيش حياة بلا ضجيج، يمكن للخيال أن يحكي قصة من اللاشيء، ليجعلها شيئاً، نابضاً بالحياة.
يحثّكَ للبحثِ عن الكلمات المناسبة لتضعها في مكانها، ولا تكتفي بأيّ كلمة، عابرة، وفقط، دون مراجعتها وتمحيصها، والعبث بتركيبتها، حتى ينتظم الوزن والإيقاع، والنغم.
كلّ كاتب يمتلك خيالاً، البعض يغوص في الأعماق، ما وراء الأشياء، والحركات، والإيماءات، وآخرون يكتفون بالمشاهدة فقط، يختصرون المشهد، ويقتلونه أحياناً.