د. تنيضب الفايدي
لكلّ أجل كتاب ولكلّ كائن حيّ نهاية، وإسلام الروح لبارئها لها وقت محدد، ولكن الإنسان يجهل هذا الوقت ويحول بينه وبين نهايته أمر غيبي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما أن الإنسان لا يدري كيف تنتهي الروح وبأيّ أسلوب، والناس تعرف أن العمر ينتهي بحادث أي حادث من حوادث الطرق أو حوادث العمل أو في المستشفيات، وأغلبها تكون حالات مرضية أو موت مفاجئ.
ما حيلة الناس؟ وهل من يدٍ
لهم بدفع الموت أو صده؟
يبكيه من حزن عليه فهل
يطمع في التخليد من بعده!
وقد ينقذه الله في لحظة من اللحظات، وهذا ما حدث لي تماماً حيث كنت بكامل قواي واقفاً على قدميّ وأحسست بما يشبه الوخز وسقطت بقوة على الأرض وفقدت الوعي للحظات، وقد تم استدعاء الإسعاف وحتى يتم نقلي إلى المستشفى غرست مجموعة من الأسلاك في جسدي وخاصة في صدري وما حول الصدر وما رقَّ من الجلد حول البطن، واستمر الوقت ما يقارب ساعة بالنسبة لي وتم نقلي إلى المستشفى مع إحساسي بعدم سرعة السيارة ربّما خوفاً على احتمال تكرار الإصابة، وفقدت في هذه الفترة آمالاً عراضاً واختلطت أهمية الأعمال لديّ، فمن كان يأخذ ترتيب الأول أصبح لا عبرة له، وتركزت أهمية التفكير في وضعي الصحي، كما أن ما يحيط بي من أفراد الأسرة أصبح يحتلّ أهمية كبيرة وتأثرت كثيراً بوجود بناتي حولي وهنّ يكتمن البكاء ولكن تظهره العبرات، ولعلّه أصعب موقف يمرّ بي في حياتي حيث لا أستطيع أن أعبِّر لهن بأن الوضع طبيعي وأنني بخير بل وانعقد لساني أن أنطق بأي كلمة، لكنّ الموقف بالنسبة لي وضمن تلك الظروف كان موقفاً صعباً يلزمه الصبر بأنواعه، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم تلك الأنواع والجزاء المترتب عليها ولابدّ للإنسان أن يطبق بل ويلتزم بالصبر في هذه الظروف؛ لأنه لا يملك غيره.
سأصبر حتى يقضي الله ما قضى
وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع؟
وقد ذكرني بكاء بناتي الصامت بأن أكثر ما يتأثر بوفاة الوالد بناته، كما أنه يكون في حرج شديد أثناء الموقف؛ لأن البنات وبالذات أكثر تأثراً من غيرهنّ بوفاة والدهنّ، وقد تذكرت بعض مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تدل على اهتمامه بأصحابه وبأسرهم حيث يشارك في تخفيف مصائبهم؛ لأنه شديد الرأفة والرحمة، وذكر ذلك القرآن الكريم صراحة حيث قال {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه زار بيت زيد بن حارثة بعد استشهاده في غزوة الروم (مؤتة) ليخفف أثر المصاب على أسرته حيث كان زيد بن حارثة رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً، بل كان قبل تحريم التبني يقال له زيد بن محمد، لذا أصبحت هناك مكانة خاصة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما زار صلى الله عليه وسلم منزله ورأت ابنةُ زيد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جهشت بنت زيد في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستثارت كامنات شجون القلب الرحيم، فبكى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى انتحب (والانتحاب استمرار البكاء مع الأنين)، فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: (هذا شوق الحبيب إلى حبيبه).
ويحتاج الإنسان المريض إلى وضع اجتماعي جديد بعد إصابته؛ لأنه يشعر بأنه فقد جزءاً كبيراً من منزلته الاجتماعية، لذا فإن زيارته ترفع من معنوياته وتعيد له مشاعر الانتماء والحبّ للأسرة والمجتمع وتشعره بأنه ما زال عاملاً مهماً في هذا المجتمع؛ لذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بزيارة المريض (ما مِن مسلِمٍ يعودُ مُسلِمًا غدوةً إلا صلَّى عليهِ سبعونَ ألفَ ملَكٍ حتَّى يُمسيَ، وإن عادَهُ عشيَّةً إلا صلَّى عليهِ سبعونَ ألفَ ملَكٍ حتَّى يُصبِحَ، وَكانَ لَه خريفٌ في الجنَّةِ)، وعن أَبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ...).
كما أن في حالة مرضه يتذكر أقرب الناس إليه ولاسيّما أصحابه خلال ما مضى من عمره، وكم أسعفتني تلك المشاعر الفياضة عن الاطمئنان عن صحتي ودعاء الناس لي بالشفاء، كما أشعرتني بتآلف القلوب وأن سعادة الإنسان في علاقته بالله سبحانه وتعالى ثم في من يحيط به من أسرته ومعارفه، علماً بأن محبة المدينة المنورة وأهلها كان يشغل جلّ فكري، وقد أمليت هذه الكلمات وأنا لازلت على سريري متأثراً بالإصابة.