الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يزخر وطننا الغالي بعدد كبير من الشخصيات التي تميزت بعلمها وفضلها وعطائها ممن أفنوا أعمارهم في خدمة دينهم ومجتمعهم ووطنهم، وكانوا مثالاً للبذل والبناء في شتى المجالات، وخلفوا ذكرا حسنا، وذكريات جميلة يتناقلها أبناؤهم وأصدقاؤهم وزملاؤهم، وتسطر في سيرهم وما يدون من صفحات حياتهم وتاريخهم، ولاشك أن بعض الجوانب المشرقة في حياتهم تخفى على من كان بعيداً عنهم، ولعل من الخير إبرازها، وإلقاء الضوء عليها ليفيد منها من اطلع عليها، وتكون حافزاً لمن سمع بها.
ومن الوفاء لهذه الشخصيات أن يقوم القريبون منهم من أولادهم وأصدقائهم وزملائهم بنشر شيء من سيرهم الحميدة ومواقفهم الجميلة مما يعد أمثلة حية للاقتداء، وعنواناً للوفاء، ومن تلك الشخصيات فضيلة الشيخ صالح بن عبدالعزيز الغصن الذي وافته المنية في 7/ 6/ 1444هـ عن عمر بلغ 88 عاماً.
«الجزيرة» التقت ابنه الدكتور سليمان بن صالح الغصن ليكشف لنا جوانب لم تنشر من قبل من حياة والده العلمية والعملية.. حيث يقول: توفي والدي بعد معاناة مع المرض، وبعد حياة مليئة بالعلم والعبادة والصبر والجد والاجتهاد والعطاء والكفاح رحمه الله رحمة واسعة، وأنزله منازل الأبرار، في أعالي الجنان مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وقد سبق أن نشر صديق الوالد الوفي معالي الشيخ صالح بن حميد حفظه الله في كتابه: (تاريخ أمة في سير أئمة الحرمين الشريفين) جملة من المحطات التاريخية في حياة الوالد، ولعل الحديث في هذا اللقاء يتركز على ذكر شيء من سيرته وأخلاقه ومواقفه، مما أرجو أن يكون سبباً في ثواب يعود عليه، من المطلع والقارئ بدعوة صالحة أو اقتداء؛ فقد كان والدي رحمه الله ذا علم وديانة، وصاحب سنة واتباع، وتعبد وورع، وأدب وسمت وخلق، وبذل وعطاء، وحسن عشرة ووفاء.
* عرف عن والدكم الشيخ صالح الغصن علاقته القوية بسماحة الشيخ عبدالله بن حميد، فلعلك تحدثنا عن شيء منها؟
- يعد الوالد -رحمه الله - أخص تلاميذ سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله فقد درس عليه منذ عام 1378هـ إلى أن توفي الشيخ، فحفظ وقرأ عليه متونا كثيرة في عدة فنون، وقد لازم الوالد شيخه سماحة الشيخ عبد الله بن حميد على مدى خمسة وعشرين عاما، لاسيما بعد انتقاله معه إلى مكة ثم الرياض، حيث كان معه في حضره وسفره، وكان يأتي بيت سماحة الشيخ في المساء لإكمال بعض المعاملات، وإعداد بعض البحوث والخطابات التي يطلبها الشيخ، ويصحبه لبعض الاجتماعات المهمة، وقد استفاد الوالد رحمه الله من علم شيخه وسمته وحكمته وحزمه، وكان موضع ثقة شيخه، وكثيراً ما كان الوالد يذكر فضل الشيخ عليه وإفادته منه.
* وماذا عن تحصيل الوالد العلمي ومشاركاته؟
- تميز الوالد -رحمه الله- في حفظه وفهمه وذكائه وتحصيله، وقد كان فقيها متضلعا، ومحققا لعلم التوحيد وعموم أبواب الاعتقاد، مع دراية واطلاع على بقية علوم الشريعة من التفسير والحديث علومه وغيرها، كما كان محبا للغة والأدب، فقد حفظ ودرس جملة من منظومات النحو وكتبه، واطلع على كثير من كتب الأدب والتاريخ، وكان رحمه الله يتذوق الشعر ويحفظ كثيراً من الأبيات والنوادر والملح، وتفيض قريحته أحياناً بأبيات يكتبها في قصائد خاصة، وقد عاش باذلاً لعلمه بالتدريس في بعض المساجد، والتوجيه، والإجابة على استفتاءات السائلين الذين يتواصلون معه مباشرة أومن خلال الهاتف، وقد شارك في الإشراف على تأسيس معهد الحرم المكي الشريف عام 1385هـ، ووضع مناهجه، وقام بالتدريس فيه، وتولى رئاسة المدرسين والمراقبين والتوجيه الديني في المسجد الحرام، وخطب مدة في بعض جوامع مكة المكرمة إبان وجوده فيها في الفترة التي كان شيخه سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رئيساً للإشراف الديني في المسجد الحرام، وهو صاحب سنة على منهج السلف الصالح في الاعتقاد والتعبد والدعوة، بذل وقته وقضى عمره في نصرة عقيدة السلف الصالح تعلما وتعليماً ونشراً ودعماً، وتحذيراً مما يخالفها من البدع وأهلها، وكان داعياً إلى لزوم الجماعة والسمع والطاعة بالمعروف، محذراً من أسباب الفرقة والشقاق والتحزب والخروج والمنازعة.
* وماذا عن جوانب من تعبده؟
- كان -رحمه الله- من أهل الصيام والقيام وتلاوة القرآن، يذهب للمسجد قبل الأذان، وكان محافظا على صلاة الجماعة حتى في أثناء مرضه وضعف قوته حيث كان يؤتى به إلى المسجد بالسيارة ويهادى حتى يصل إلى الكرسي في الصف، وكان -رحمه الله- يجلس في المسجد بعد الفجر إلى طلوع الشمس، كما كان يجلس فيه في الضحى وبين المغرب والعشاء، مشتغلاً بالذكر والتلاوة ومطالعة كتب العلم، وبعدما اشتد مرضه وصار لا يقدر على المكث طويلاً في المسجد صار يقرأ في البيت ويتحسر على فقدانه لما كان يأنس به من الجلوس في المسجد، فكنت أخفف عنه وأسليه بتذكيره بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد، أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحاً» رواه البخاري، وقوله في الحديث الآخر: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم حبسهم المرض)، وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر) رواه مسلم.
وكان قلبه يهفو إلى مكة، ويتابع بين الحج والعمرة ما أمكنه ذلك، فقد حج رحمه الله أكثر من خمسين حجة، وأذكر أني اتصلت به من عرفة في عام لم يتمكن من الحج فيه فخشع ولم يستطع إكمال الكلام، وكان محافظاً على العمرة في رمضان والإقامة بمكة إلى نهاية الشهر، وحبب إليه الاعتكاف في العشر الأواخر، ولزوم المسجد والانقطاع عن الناس حفاظاً على الوقت لاسيما في الأزمنة الفاضلة، وهو محباً لعيادة المرضى، والصلاة على الجنائز؛ فيذهب إلى مسجد الراجحي في الرياض لأجل الصلاة على الجنائز حتى في آخر أيامه وقد أثقله المرض وصعب عليه المشي والانتظار.
* وماذا عن نصحه وتوجيهه وإصلاحه؟
- كان -رحمه الله- صاحب نصح وغيرة على حرمات الله تعالى وحدوده، ممتثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم؛ فكان يبذل النصيحة للكبير والصغير والقريب والبعيد بلطف وشفقة وإسرار، قال الفضيل: (المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)؛ فهو يبذل النصيحة لمن يقبلها ولمن لا يقبلها، ومما يذكر في هذا الجانب أنه كتب إلى عدد من جيرانه يحثهم على صلاة الجماعة، فكانت نصيحته سبباً في محافظتهم عليها في المسجد، وكتب لأحدهم في ذلك فرد عليه بقوله: (دع الخلق للخالق)، وكنت جالساً في المسجد وسمعته ينصح أحد الجيران لتقصير عنده في أمر من الأمور، ينصحه بصوت متهدج كأنما تخالطه عبرات وقد قال لي هذا الجار الوفي العاقل: إن أباك كلما زاد عتابه لي (يعني في النصح) زاد في غلاه عندي لعلمي أن الدافع له هو المحبة والإخلاص والصدق.
ومما يدخل في هذا الجانب أنه كان رحمه الله ساعياً في إصلاح ذات البين، وحل المشكلات والخلافات الأسرية، حتى صار مرجعاً يلجأ إليه الأقارب وغيرهم في ذلك، لما حباه الله تعالى من العقل والحكمة والصدق والإخلاص في النصح، وله في ذلك مواقف وكتابات عديدة.
* وهل ذكرتم لنا شيئاً من جوانب أدبه وتواضعه؟
- كان رحمه الله مثالاً في الأدب وحسن المنطق والتواضع للغني والفقير والعالم والجاهل والصغير والكبير، وحتى مع العمالة والوافدين المقيمين الذين يلقاهم، مما كان له الأثر الكبير عليهم، وقد رأيت عددا منهم- بعد موته-وقد أحسوا بفقده، وظهرت آثار الحزن عليهم.
ومن سيرة والدي في تواضعه، وهضمه لنفسه أنه -مع تضلعه في الفقه وما حباه الله من دقة الفهم والقدرة على البحث والكتابة- لم يؤلف كتاباً، ولم ينشر بحثاً، مع وجود تحقيقات له ونقول وفتاوى ومطارحات علمية في كثير من القضايا يرسلها لبعض أحبابه ومن يتباحثون معه في بعض المسائل -أسأل الله أن ييسر إخراجها-، وأذكر أن أحد طلبة العلم نشر دراسة لكتاب فقهي، فلما اطلع عليه الوالد كتب عليه قرابة ثمانين ملحوظة.
ومن تواضعه أنه يبدأ السلام كل من يلقاه من صغير وكبير، وشريف ووضيع، وغني وفقير، ويرد على كل اتصال ورسالة تأتيه عبر الهاتف، وكان لا يرضى أن يحجز له مكان في المسجد، مع أنه كما وصفه أحد جيرانه (حمامة المسجد).
ومن المواقف التي تدل على حلمه، وكريم خلقه أن أحدهم جاء إلى الوالد شافعاً في طلب زيادة مساعدة لمدين، فأغلظ في قوله، وأساء الأدب في طلبه، والوالد يحلم عليه، ويبين له خطأه، وكأنما الوالد هو المتهم المقصر، وتعجبت من حلم الوالد وسعة صدره، فأرسلت إلى ذلك الشخص رسالة عتاب على سوء أسلوبه، وبغيه وتطاوله، فأرسل يعتذر، والأعجب من ذلك أن الوالد لم يحمل في نفسه على ذاك الشخص شيئاً، فكان يقابله بعد ذلك وكأن شيئا لم يكن، وهذا من دلائل سلامة الصدر التي امتاز بها الوالد-فيما نحسبه-، وقد كان يتواصل مع من لا يرتضي بعض سيرتهم، ويحسن استقبالهم، ويتألفهم.
وهو عفيف اللسان لا تسمع منه غيبة لشخص، ولا احتقاراً لوضيع، ولا سخرية بجاهل، ولا ازدراء لفقير، ولا نميمة ولا سبا ولا شتما.
* البذل والعطاء من سمات الشيخ صالح الغصن.. فهل حدثتمونا عن ذلك؟
- أما بذله وعطاؤه وصدقاته فهذا الباب من أفضل متعه، حتى سماه بعضهم (أبوالفقراء) وقد أنفق في سبل الخير المتنوعة أموالاً طائلة لا أود التفصيل فيها، علمت بعضا منها، وخفي عني كثير منها، شهد ببذله وإحسانه القريب والبعيد، وكان يتعرف على أحوال أقاربه وأرحامه ويتواصل معهم فيساعدهم ويقف معهم في حوائجهم ومناسباتهم، فكان من عادته مساعدة كل من أراد الزواج من الأقارب والأرحام بمبلغ من المال، وكان يذهب بنفسه إلى بيوت بعض المحتاجين ويحسن إليهم، ويأتي إليه بعض الفقراء ممن يعرفهم ومن لا يعرفهم، وقد كنت أشفق عليه من إلحاح بعض السائلين الذين يلقونه في المسجد ويلحفون في مسألتهم فيضجرونه ويشغلونه، وكان يحتفظ بأرقام بعض الفقراء ويتواصل معهم، وهو في كل ما يبذله من صدقات وإحسان يباشر ذلك بنفسه، ولا يحب أن يطلع عليه أحد إلا بقدر ما يعين في تحقيق غايته، وهناك أشياء لم أعلم عنها إلا حينما أحس بقرب أجله، حيث أخبرني ببعض الأمور لأجل استمرار صدقاته وإحسانه، كما أن هناك أموراً لم نعلم عنها إلا بعد وفاته رحمه الله.
ومن جوانب بذله لجاهه أنه كان رحمه الله يكتب شفاعات لأقاربه ولغيرهم لتسهيل بعض الأمور، وقضاء بعض الحاجات، وربما ذهب بنفسه للشفاعة، وأحياناً تكون شفاعته عبر الهاتف، ويحرص على إتمام ما شفع فيه.
* أشار معالي الشيخ صالح بن حميد في مقالته المنشورة بالجزيرة (الشيخ صالح بن عبدالعزيز الغصن الفقه والقوة والأمانة) قبل أيام عن ورع والدكم لاسيما في الأمور المالية، فلو كشفتم عن ذلك؟
- والدي -رحمه الله- مثالاً في الورع والمبادرة في أداء الحقوق، فهو لم يدخل في تعاملات فيها شبهة فضلاً عما ظهرت حرمته، ومن ورعه أنه مع ما عرف عنه من تبكير في الحضور للعمل قبل وقت الدوام أحيانا، وحرص على إنجاز ما تحت يده من معاملات إلا أنه كان يشعر بالحرج من أن يكون قصر في الحضور أو الانصراف في بعض الأيام لاسيما عند قلة العمل، وقد أودع -رحمه الله- على مدى خمسة وثلاثين عاماً قبل تقاعده وبعده، عدة شيكات في حساب وزارة العدل وحساب صندوق إبراء الذمة بلغ مجموعها ثلاثمائة وثلاثين ألف ريال، وهذا لم نعلم عنه إلا بعد وفاته رحمه الله، وذكر لي والدي أن من أسباب طلبه التقاعد المبكر، وإلحاحه وكتابته في ذلك عدة مرات، هو تقديره وإحساسه بأن ما يقوم به من عمل في السنوات الأخيرة لا يفي بما يأخذه من الراتب. وكان كثيراً ما يشيد بما أتاحته الدولة بما عرف بـ(حساب إبراء الذمة) ليودع فيه من شاء من أموال فيها شبهة، أو يتحرج منها، أو دخلت عليه بغير حق، كما كان مسارعاً بأداء حقوق الآخرين من الخدم والعمالة وغيرهم، وحتى إنه إذا طلب من أحد أبنائه شراء شيء بادر بإعطائه ثمنه قبل الشراء أو بعده مباشرة، كما كان يبادر بسداد فواتير الكهرباء والماء والهاتف وغير ذلك، لا يؤخر ما يرى أنه حق عليه.
* من أهم ما يتحدث عنه في باب الأخلاق ما يتعلق بالبر والصلة والوفاء فلو أشرت إلى شيء من ذلك؟
- كان -رحمه الله- باراً بوالديه، واصلاً وفياً لأهله وقراباته وأرحامه ومشايخه وزملائه وأصدقائه، يزور أقرباءه ويصلهم باختلاف طبقاتهم ودرجاتهم، ويتعرف على أحوالهم، ويشاركهم أفراحهم، فكان يفتح بيته لإخوانه يجتمعون عنده كل يوم بعد العصر أثناء وجوده في بريدة، ويزور أخواته في بيوتهن مع أنهن بعمر بناته، ولم تنقطع صلته بأصدقائه في بريدة بعد انتقاله مع سماحة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- إلى مكة، كما لم تنقطع صلته بمن عمل معهم من المشايخ والزملاء في مجلس القضاء الأعلى بعد تقاعده، لاسيما سماحة الشيخ صالح اللحيدان -رحمه الله- الذي كانت له عنده مكانة خاصة، وكان دائم التواصل مع أبناء شيخه سماحة الشيخ عبد الله بن حميد، حيث يعدهم مثل أهله وإخوانه، لاسيما معالي الشيخ الدكتور صالح بن حميد حيث كان التواصل بينهما بشكل مستمر بالمهاتفة والمراسلة والزيارة، وكذا بقية إخوانه النبلاء وأبناؤهم وهم جميعاً أهل الكرم والوفاء، وقد كان الوالد -رحمه الله- يؤخر رجوعه من مكة بعد رمضان ليحضر اجتماع أبناء الشيخ ابن حميد في يوم العيد ويسلم عليهم ويشاركهم، وكان يجيب من يدعوه لمناسبات الزواج، وفي مرة رأى ما لا يرضاه في الحفل فطلب من الداعي إزالته فاعتذر الداعي فرجع الوالد رحمه الله، وكان يحب المبادرة بالحضور في المناسبات المختلفة، ويعلل تبكيره بأنه لم يحضر لأجل الأكل، ويعيب من يتأخر، وكثيراً ما يردد قول الشاعر:
ومن المصائب والمصائب جمة
حبس الجماعة في انتظار الواحد
كان رحمه الله شكوراً يشكر على القليل، ويثني على صانع المعروف ويشجعه، ويدعو له، وكثيراً ما يشيد بتخطئة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله لعبارة (لا شكر على واجب) فالشخص يشكر على ما يقوم به من أعمال خيرة، ولو كانت واجبة عليه.
* وما مساحة المؤانسة والممازحة مع الحزم والجدية في حياة والدكم؟
- كان -رحمه الله- مألفة، يلاطف، ويمازح، ويسأل، ويحاور، ويؤانس، ولهذا كان محبوباً ممن عرفه وعاشره وجالسه، من الصغار والكبار، والعوام والمتعلمين، والأقارب والأصحاب، والجيران.
وصدق الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قال: (المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف- وفي لفظ (مألفة)- ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف) رواه أحمد والحاكم وغيرهما.
وكان حازماً في أموره، دقيقاً في مواعيده، صريحاً في آرائه، شجاعاً مقداماً -من غير تهور- متفائلاً متوكلاً على الله، يمقت النفاق والرياء، والتملق والمداهنة، والجبن والخور، وكان يحب المبادرة والإنجاز في العمل، ويكره الجدل والتسويف والكسل، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم (من العجز والكسل).
* وكيف كانت علاقته بأولاده؟
- كان نعم الأب القدوة والمربي لأولاده، في التنشئة على الصلاح، والتعاهد بالنصح، وحسن التوجيه لاكتساب أفضل الأخلاق، والبعد عن الرذائل وسفاسف الأمور، مع التشجيع والدعم لاختياراتهم المشروعة في مسالك النجاح والفلاح، وكان حريصاً على اجتماع أولاده وأحفاده وتواصلهم، يشاركهم لقاءاتهم في البيت وخارجه، حتى آخر أيامه، وهو يعاني المرض حيث كان آخر لقاء دوري في بيته قبل دخوله العناية المركزة في المستشفى ببضع ساعات.
* وهل هناك شيء تحب أن تذكره في نهاية هذا اللقاء؟
- أود أن أشير إلى أن مما اتصف به الوالد -رحمه الله- محبته لتقييد الأحداث التي تمر به أو بأحد من أقاربه أو بالمجتمع عموماً، سواء كانت تاريخية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو غيرها، كما كان يهتم بكتابة الفوائد التي يقف عليها في بعض الكتب، وله في ذلك قصاصات كثيرة. وكان رحمه الله قليل السفر، لا يكاد يسافر إلا إلى مكة أو المدينة أو بريدة لصلة رحمه، ولم يسافر خارج المملكة إلا إلى أمريكا بصحبة شيخة سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله في رحلته العلاجية. وفي الختام أشير إلى أن مما اتصف به الوالد الشيخ صالح الغصن رحمه الله قصر الأمل فقد كان تذكر الموت ديدنه وكثيرا ما كان يردد قول الشاعر:
إذا الرجال ولدت أولادها
واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها
فهي زروع قد دنا حصادها
وفي أواخر سني حياته كان يردد:
قرب الرّحيل إلى ديار الآخرة
فاجعل إلهي خير عمري آخره
وكان إذا أعطاه المستشفى موعدا بعيدا يبتسم ويقول فيما معناه: لا أدري أدرك ذلك الوقت أو لا، وقد طلب منه بعض الأقارب أن يكون مرجعا لهم في أحد الأمور فقال: (أنا مثل الذي في صالة المطار ومعه بطاقة صعود الطائرة ينتظر الرحيل)، وهكذا في كل ما يعرض عليه ويطلب منه، وكان في آخر أيامه يوصي أولاده بالقرب منه في كل وقت، وكأنه قد أحس بقرب أجله، ينتظر لقاء ربه، فقد تهيأ لذلك ورتب أموره واستعد للرحيل، قال لي قبل موته بأسبوع ماكنت أظن أن الله تعالى يمد بأجلي إلى هذا العمر، فذكرت له أن هذا من فضل الله تعالى حيث يمد بالأجل على عمل صالح، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم من خير الناس؟ قال: (من طال عمره، وحسن عمله) رواه الترمذي وأحمد توفي رحمه الله، وقد ترك إرثاً من الذكريات والعمل الصالح فيما نحسبه، وقد رأى فيه بعض أقاربه رؤى صالحة.