خالد محمد الدوس
تهتم العلوم الاجتماعية بدراسة السلوك الإنساني الذي يشمل جوانبه الاجتماعية والثقافية وتضم العديد من العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم النفس والخدمة الاجتماعية والاقتصاد.
وتعود العلوم الاجتماعية إلى الأصول الإغريقية واليونانية القديمة وتشكل تراثاً قوياً في تاريخ الفكر الاجتماعي بسبب استفسارهم العقلانية عن الطبيعة البشرية والأخلاق ولذلك فإن علاقة العلوم الاجتماعية بالمجتمع الإنساني علاقة تفاعلية باعتبارها تؤثر على بنائه ومستقبله من خلال تمويل البحوث والدراسات العلمية والآثار التي تترتب على الموضعية العلمية.
ولقد اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع. ومن الخبراء في هذا المجال عالم الاجتماع المجري الأصل والألماني الجنسية (كارل مانهايم) الذي كان يعد من كبار منظري علم الاجتماع الأوروبي ومؤسس فرع علم الاجتماع المعرفي.
ولد العالم الراحل (كارل مانهايم) عام 1893 في مدينة بودابست المجرية من أم ألمانية ووالده المجري الذي كان يعمل في قطاع النسيج، وبعد أن أنهى تعليمه العام التحق بجامعة (أوتفوش لوارند) المجرية، ثم واصل تعليمه العالي في جامعة (هايدلبرغ الألمانية) ونال شهادة الدكتوراه تخصص (الفلسفة في علم الاجتماع) وكان متأثرا بالعالم الألماني والفيلسوف جورج سيميل الذي كان يحضر محاضراته باهتمام، وفي عام 1921 تزوج من عالمة الاجتماع (يوليسكا كارولني لانغ). وفي عام 1926 بدأ العمل الأكاديمي في كلية العلوم الاجتماعية (بجامعة هايدلبرغ) تحت إشراف عالم الاجتماع الألماني الفريد فيبر شقيق عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر، وبعد سنوات قليلة من العمل بجامعة هايدلبرغ انتقل للعمل خلال الفترة (1929-1933) أستاذا لعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي في جامعة (غوته الألمانية)، وفي عام 1933 طرد (مانهايم) من الجامعة لأنه كان يهوديا وأجنبيا وفق أحكام القانون النازي لتطهير الخدمة المدنية من اليهود..! بعد تولي النازي هتلر رئاسة ألمانيا.. ففقد وظيفته كأستاذ جامعي.. ففر مانهايم هارباً من النظام النازي واستقر في بريطانيا وعمل محاضرا في كلية لندن للاقتصاد، وفي عام 1946 تم تعيينه في معهد التربية والتعليم. ويعتبر العالم الاجتماعي الراحل مانهايم من مؤسسي علم الاجتماع الكلاسيكي، كما يعد المؤسس الحقيقي (لعلم اجتماع المعرفة) الذي يقوم بدراسة وتحليل العلاقات بين التمثيلات العامة للواقع وخلفيتها المكونة من الظروف التاريخية والاجتماعية، وعلم اجتماع المعرفة فرع جديد من فروع علم الاجتماع ظهر مع ألمانيا مطلع العشرين مع أبحاث العالم (كارل مانهايم) ويسعي هذا الميدان الخصيب إلى فهم الصراع الايديولوجي واليوتوبي الكلي للتفكير الاجتماعي، وذلك أن مانهايم يعتبر من الأوائل الذين أسسوا لهذا الميدان الاجتماعي الذي يحدد المعرفة الاجتماعية كرؤية جديدة مع التحول الابستمولوجي إلى علم الاجتماع المعرفي الذي يبحث العلاقة بين المعرفة والمجتمع. ومن هنا يعد مانهايم الممثل الرسمي لعلم اجتماع المعرفة لأنه بذل جهدا كبيرا في تحديد مجالاته ومناهجه وتأكيده على الطابع الاجتماعي للمعرفة، وقد عبر عن تلك الأفكار في كتابه الشهير (الأيديولوجيا واليوتوبيا)، الصادر باللغة الألمانية المنشور عام 1929 والذي تم إعادة كتابته باللغة الانجليزية تحت عنوان (الأيديولوجية واليوتويا) مقدمة في علم اجتماع المعرفة وظهر عام 1936، حيث ميز فيه بين الأيديولوجيات الجزئية والكاملة، التي تمثل وجهات نظر عالمية شاملة مميزة لمجموعات اجتماعية معينة، وكذلك بين الأيديولوجيات التي تقدم دعما قديما للترتيبات الاجتماعية القائمة، واليوتوبيا التي تتطلع إلى المستقبل وتهدد بتحويل المجتمع، وقد تأثر هذا العالم الفذ بالنظرية الماركسية إلا انه لم يكن ماركسياً خالصاً..!
وما يميزه أنه مزج النظرية الماركسية والنظريات الأخرى وحاول دراسة المضمون الحقيقي الكامن وراء كل عملية تاريخية على اعتبار أنه لا يمكن مشاهدة الأفكار دون التحقق، أو الالتحام بالتاريخ، ولذلك فان التاريخ من وجهة نظره هو الذي يصنع الفكر والقيم.
وأما أهم اتجاهات علم الاجتماع المعرفي عند مانهايم فهو:
1- تأسيس نمط جديد في التاريخ الفكري يكون قادرا على تفسير تغيرات أفكار في ضوء التغيرات الاجتماعية والتاريخية.
2- النظر إلى المشكلة الواحدة من زوايا مختلفة والحصول على منهج عالي الدقة من خلاله يمكن التمييز بين أساليب التفكير المختلفة، وهذا المنهج يجمع بين (تحليل المعاني، والتشخيص، والوصف السوسيولوجي) الهدف من ذلك تحقيق غرضين:
أ- تحليل المعاني في مجالها الفكري والعمل على إلغاء المفاهيم المختلطة بغيرها، ولا يمكن التمييز فيما بينها وتحل بدلاً منها أوصافا دقيقة لأساليب الفكر.
ب- إتقان فن إعادة بناء التاريخ الاجتماعي كي يرى الحقائق الاجتماعية ككل متكامل وليس أجزاء مبعثرة ومعزولة عن بعضها البعض. وقد أكد العالم (مانهايم) أن علم اجتماع المعرفة له وجهان: الأول نظرية، والثاني :منهج تاريخي للبحث، فالأول بحث تجريبي قائم على الوصف والتحليل البنيوي للأساليب الاجتماعية التي تؤثر على الفكر، ويتحول علم الاجتماع المعرفي إلى الوجه الثاني عندما يبحث في العلاقة المتبادلة بين الوضع الاجتماعي والفكر. وقد استفاد صاحب «الفكر المانهايمي» من كل إمكانياته التحليلية ليثبت القول وبالحقيقة المطلقة في ظل حضور العناصر الايديولوجية واليوتوبية التي تُرسي- في نظره- قواعد المعنى للسلوك الاجتماعي والسياسي.
توفي العالم الألماني (كارل مانهايم) في لندن عام 1947 عن عمر يناهز 54 سنة بعد أن ساهم في إثراء مكتبة علم الاجتماع وتراثها الأصيل بالدراسات العلمية والمؤلفات السوسيولوجية والأبحاث البارزة التي شكلت ملامح نشأة وقيام علم اجتماع المعرفة.. كعلم خصيب له نظرياته وأبحاثه ومقوماته العلمية.