حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
أهدت الحضارة العربية والإسلامية للعلم والفنون والآداب أعظم منظومة شهدها التاريخ، وهي منظومة (الوِراقة والورّاقون) حيث ازدهرت الوراقة ذلك العالم الصخب على مدى ألف عام ووثت لنا أنفس أنواع النشاط العقلي في كل من علوم العربية وعلوم الإسلام وعلوم الأمم كاليونانية والفارسية والهندية والسنسكريتية بل كانت من عوامل نشاط حركتي التأليف والترجمة، وهي ظاهرة تاريخية علمية أدبية، أبدع فيها العلماء والأدباء والناس على تفاوت شرائحهم، ولهم فيها أخبار نفيسة تكتب بماء الذهب، وممن مدحها وجلل شأنها شهيد القراءة والكتب الجاحظ وله في ذلك رسالة، وممن مدحها وندد بها أبو زيد البلخي ت 322هـ، وله في ذلك رسالة سماها: (رسالة الوراقة) وعبدالرحمن بن مسك السخاوي أثنى عليها في كتابه (تنويق النطاقة في علم الوراقة)، وكانت مجالس الإملاء التي يعقدها العلماء الأدباء من عوامل ازهار الوراقة ونشاط بوصلتها في العلوم والآداب والفنون والمعارف، وذلك لأن النساخ ينسخون مباشرة منها، وكان ازدهارها في غضون القرنين الثالث والرابع الهجريين، وبلغت أوج عزها في خضم الدولة العباسية الناهضة، ويعتقد أن معمل الورق ومصنع القرطاس منطلق من بغداد العراق حيث أيام هارون الرشيد، ولولا هذه الحرفة لفقدت العلوم والآداب أمهات المصادر، ونفائس المراجع، وذلك لأن الوراقين هم أول من سن حرفة (الوراقة)، وهي كما عرّفها عالم الاجتماع الأول- ابن خلدون – في مقدمته الناهضة بقوله: (معاناة الكتب بالانتسّاح والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتبية والدواوين) ويقصد ابن خلدون بالدواوين، وزارات الدولة وإداراتها وهذه الحرفة هي التي ارتكأ واعتمد عليها العلماء والأدباء والمحدثون والشعراء والفلاسفة والخلفاء والأمراء والوزراء على جليل قدرهم، وعلو منازلهم، في نشر نتاجهم وطبع كتبهم، وكانت تقوم مقام المطبعة التي تنشر وتطبع وتجلد وتزوق وتقابل إلى أن توزع.
والوراقون كانوا حسب كل أقليم وقطر ومصطلحاته تاره يطلق عليهم لفظ (الكتبيون) ومفردها (كتبي) أو ( أصحاب القراطيس)، أو (أصحاب الورق) لعملهم في عالم الكتب والدفاتر والأوراق والأقلام.
وكانت لهم أسواق تحوى دكاكين وحوانيت لها ضوابط تنشر بضائعهم الفكرية وشتاتهم العقلي، ولا أدل على هذه الحوانيت (دكاكين)، من حيث وجودها بأجدى مما نقله وحكاه (ابن النديم) في كتابة (الفهرست) – وكان هو الآخر يعمل بالوراقة – من أن الجاحظ- كان (يكتري) أي يستأجر دكاكين الوراقين ويبِت فيها ليقرأ غرر مصنفات العلم، ونفيس مؤلفات الادب وعُرف عن المؤرخ الجغرافي اليعقوبي أنه شاهد في جانب واحد من بغداد أكثر من مئة حانوت للوراقين، وعرف عن البشاري أنه قال: (أحذق الناس بالوراقة أهل الأندلس).
والوراقة مهنة سامية حصل الوراقون منها أموالاً طائلة، وتجارة رابحة، وكان أجلاء العلماء يعملون بها، فكانوا يفتاتون منها، ويسدون بها رمقهم، ومن مشاهير العلماء الذين عملوا وراقين تكسباً الإمام أحمد بن حنبل فكان ينسخ الكتب بأجره ليقتات طعامه، والإمام النحوي أبو سعيد السيرافي كان يعيش منها، وابن مروان البغدادي كان ينسخ ويقتات منها، والإمام أبو حامد الغزالي، كان ينسخ الكتب والمصاحف ويبيعها، ومن الأمراء الذين احترفوها السلطان نور الدين الزنكي الذي كان يأكل من كسب يده، والمعتمد ابن عباد سلطان إشبيلية الذي كان مثابراً على نسخ الدواوين، والموطأ كان له نسخة كتبها لسلطان المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين.
والوراق المبدع والمتفن لعمله كان محط أنظار أهل العلم والادب والثقافة، وكان الوراقون يعرضون صناعتهم عليهم مقابل أجر معين، ويتصاعد الأجر بتصاعد ميزات الناسخ من خط جميل، ونسخ صحيح، وزمن سريع، ومن هنا أتخذ العلماء وراقين لهم لتقييد فكرهم وعصارة عقولهم، فمنهم من كان له وراق واحد، ومنهم من كان أكثر من ذلك، وعرف عن بعض العلماء أن له اثنين، بل تضاعف العدد، ويحكى عن الوزير ابن فطيس أنه كان له ستة وراقين دائمين ينسخون له الكتب مقابل أجر معين، واتسع رحب طائفة الوراقين وضمت مختلف الملل والنحل الدينية وقد أهدت الوراقة ومن ويمتهننها للثقافة على تباين أصنافها، واختلاف أنواعها يداً كريمة سخية عجز الكثيرون عنها.
** **
- بنت الأعشى -