د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
تحيَّة طيبة تزفُّ لكم معاشر القرَّاء..
(شأن الاختلاف):
الاختلاف من طبيعة البشر كما هم مختلفون جدّاً، هم كذلك متَّفقون جدّاً، كيف ذلك؟ أويكون ذلك؟ نعم، ذلك كذلك؛ لأنَّ حال مسيرنا في الاتِّفاق والاختلاف أن نكون كأنَّنا في آلة القُمع، فإنَّنا عند الاختلاف ننزع إلى الدَّقائق والتَّفصيلات وننقِّر عن الأخطاء -ودائماً هي قلائل وصغائر- فننحدر إلى أسفل القُمع فيضيق بنا المكان فنتنازع، وعند الاتِّفاق ننظر إلى التَّشابه ننظر إلى الكبار من الأمور الَّتي تخلق التَّشابه، وهي ما يسمَّى بالمشتركات؛ فتجدنا نصعد ونتسامى فيتسع بنا الأفق، فأنت ترى بني البشر متشابهين من حيث الجسوم ووجود الأعضاء، وهم في الوقت نفسه مختلفون جدّاً، بل الإنسان نفسه، وهو هو، يومه ليس كأمسه، بل بينهما اختلاف في اليوم والوقائع والأحداث، وهو كبيرٌ يختلف عنه صغيراً، وما يحبُّه اليوم ويودُّه ربَّما لم يقبله غداً وردَّه، والاختلاف سُنَّة.
ومن هنا فالاصطلام والاختلاف والانتقاض موجود، وهو منتوج عقليٌّ، وهو استجابة وردَّة فكريَّة لفكرٍ أو فكرة، ورأي أو رؤية، وهذا أمر طَبَعيُّ الوقوع بلا مراء، ومثل ذلك سواء بسواء الاتِّفاق والالتئام والمشاركة والتَّأييد، وهذا جمال وكمال لكونها حقائق، غير أنَّ الباعث للاصطلام أو الالتئام والدَّافع لهما إمَّا أن يكون دافعاً عاطفيّاً وإمَّا دافعاً علميّاً، والعلميُّ إمَّا أن يكون موضوعيّاً صرفاً بحيث ينظر للموضوع وحدة ودليله وحجَّته فحسب، وقد ينظر له نظرة ذات نزعة مقاصديَّة أو نزعة ذرائعيَّة، وتان النَّظرتان تجتمعان وتفترقان، فتتفقان أنَّهما يدمجان عند النَّظر في الدَّليل والحجَّة المقاصديَّة والذَّرائعيَّة، وتفترقان أنَّ الذَّرائعيَّ إذا زالت الذَّريعة قد يختلف حكمه؛ لأنَّه حينئذٍ سينظر إلى الدَّليل مجرَّداً دون إدماج، وهذا بخلاف المقاصديُّ الَّذي لا ينفك من المقاصديَّة، ومذكوري هذا مهاد حديثٍ لا حديثٌ، وتوطئة قولٍ لا قول.
(المقولة السَّيَّارة):
عند النَّظر للصُّورة من جهةٍ أخرى أقول: إنَّ من المؤثِّرات ما يعتلق في الذِّهن من حِكم موروثةٍ ومن مقولات سيَّارة، فللحكمة أثر على النَّاطق والكاتب، ولها وقع على السَّامع والقارئ؛ لأنَّها مكنز معانٍ بألفاظ قليلة وجمل قصيرة، فهي ممَّا قصُر لفظاً ومُلئ علماً، وسأنطلق في مدرج حديثي هذا بحكمتين مؤثِّرتين، ومقولتين مأثورتين؛ لتكون منطلقاً للحديث، ومفتحاً لبابه للوصول إلى لبابه.
من ذلك أنَّه قد قيل ممَّا قيل: إنَّه ممَّا يُشكِل ألَّا أضرَّ على العقول وتعطيلِ آلة النَّظر من الاشتهار، فإنَّ شهرة شيء ما مدعاة إلى التَّسليم به، واعتقاده الحقيقة، من غير منازعة أو استرابة، سواء أكان ذلك رأياً أم حكماً، فهو مأخوذ به بلا شكٍ ولا ارتيابٍ، ويسلَّم له بلا نظرٍ ولا اضطرابٍ تسليمَ الجهولِ للخبير، والصَّغير للكبير.
وثاني الاثنين اشتهار مقولة: ما ترك الأوَّل للآخر شيئاً، وقد جعلها المتقدِّمون هدماً للعلم وتضييقاً لجنابه، وعدَّوها رهقاً للاجتهاد وسدّاً لبابه، ورام قوم لها تصحيحاً فقالوا: كم ترك الأوَّل للآخر.
ولكن لا أسعد ولا أنهج في إعمال آلة النَّظر وتمكين عيار الفحص وبذل المحص بآلة الفكر، وعدم تعطيلها من مقولة ابن جنِّي: «كلُّ من فُرِق له عن علَّة صحيحة، وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبو عمرو فكره» [الخصائص: 1/ 190]، وهي دستور نظرٍ، ومنعرج آراء، ومجمع أقوالٍ، إذ مقولته هذه منزعها النَّظر للعلم ثُمَّ لِحَمَلته، وأمَّا سابقتها فمنزعها النَّظر لأهل العلم ثُمَّ للعلم، وبين النَّظرين بون واسع وفرق شاسع.
ولا يعني التَّلبُّس بهذه المقولة منهجاً واعتناقها دستوراً ثلباً بالمتقدِّمين ولا طعناً بهم، ولا فيها الإذن بالمخالفة، فضلاً عن مخالفتهم لأجل المخالفة فحسب، إذ المتقدِّمون لهم من اسمهم نصيب إذ هم الأقدمون، والأئمَّة المتَّبعون، فلقول المتقدِّمين وهج تكسوه جلالة، وله بسطة على الخالفين، وسيطرة على فكرهم، ولبيانهم سطوع يُفتقد في أقوال المتأخِّرين، وما ذاك إلَّا لكونه حصيلة علمٍ، ودقَّة إحاطة، وقوَّة نظرٍ، كيف لا: وهم انتخلوا كلاماً منثوراً وتقرَّوا شعراً مبثوثاً فإذا هو قواعد قائمة وضوابط ضابطة، استخرجوها بقوَّة عقولهم وبحسن بصيرتهم وقوَّة نظرهم وإعمالهم آلة الفكر بأقصى قوَّتها وطاقتها، فكان ما كان ممَّا يُفخر به ويُفاخر.
ويعزِّز ذلك أنَّهم شافهوا العرب أهل اللسان، فجمعوا بين قوَّة العلم ودقَّته ومقاربته، وقرب العهد بأهله أهل اللسان وملاقاتهم والأخذ منهم، وهاتان السِّمتان تُفتقد إحداهما عند مَن خلف، فالسَّماع من العرب الفصحاء ولقاؤهم مفتقد عند المتأخِّرين من علماء العربيَّة إذ الاكتفاء عندهم بلقاء أهل العلم، فالمتأخِّرون ليس لهم إلَّا قوَّة الذِّهن وقوَّة الحافظة والإحاطة بأقوال المتقدِّمين ومناحي العلم، وطرائق مناهجه، ومذاهب معالجاته.[متبوع]