د. شاهر النهاري
خرجت حليمة من باب طفولتها وهي لم تغلقه بعدها، صبية متفائلة تعشق الحياة، ولا ترى غير دجاجاتها وديكها حياة وتسلية ولعب طفولة وطموح وعين مسؤولية، فكان شرطها على أهلها أن يحملها العريس بما معها من أرياش رفاق الطفولة، وحياة وخبرة لا تجزم فيها هل البيضة قبل الدجاجة، أم متدحرجة متأخرة عنها.
عريسها سعيد، كان أكبر منها سناً، فوجد الاقتران بها بياضاً للنوايا في بدء مشوار حياته معها بحكاية نادرة لطيفة مستغربة، سيظل يحكيها لأبنائه تندراً، وتوصيفاً لبراءة شراكة العمر.
أغرب مراسم عرس شهدتها القرية الجبلية، التي زُفت إليها حليمة على ظهر جمل أسمر، وهي محاطة في هودجها بالهدايا والفواكه وأقراص البر المخبوز بالسمن والسكر، تهادي قطع منه للصغار يتبعونها في طريقها.
وركبت أمها خلفها على حمار حساوي، وخلفهما حمار يقوده صاحبه، وهو يحمل الدجاجات وسط كرس من الخشب صنع لمثل تلك المهمة المستغربة.
الدجاجات والديك لم يكن ذلك اليوم أفضل أيامها، فكان القيد والضيق، وكان رهبة ضجيج أصوات البنادق المحتفلة تلعلع في أيادي الشباب المتمايل، وكان النشيد والرقص ودق الزلف، وتطريق المنشدين بالأشعار، احتفالاً بعقد زواج تآخي بين قبيلتين من قريتين مختلفتين، طال الدرب بينهما وعرا، وطالت الأمنيات بعناق ونسب يزيد أواصر المحبة بين الطرفين، ويعيد طراوة الدرب الحجري.
التمع سعيد برجولته بين الراقصين بهمته وحلته البيضاء، حزامه الجلدي وجنبيته الفضة بين قمم سعادة تباري جبال الطريق، وتفيض بالوديان بهجة نصر وموسم خضار، وحليمة تنزل من مركوبها، وتدخل بيته الحجري الصغير، وهي ترتدي ثوب قطيفة أخضر، والحناء يباري بياض يديها، وفرق قصتها في قمة رأسها تنعش الأجواء بأطيب أنفاس العطور، وعيناها الواسعتان المتسائلتان تتفحصان المكان من تحت ستار خجل، تزوغ يمينها وشمالها وتحيط بكل زوايا ذلك الحقل الصغير، الذي يحيط بالبيت، بأنواع من أشجار التين وقصاب الخضراوات، وعدد من الماشية.
هنا سيكون عالمها الجديد، وعالم دجاجاتها حبيباتها، وهي لا بد أن تتأكد من أنه خير مرتع، وأمان لها.
حليمة كانت حينها تنازع صور السعادة والخجل والحرج، فكان همها أن تجد دجاجاتها المكان والرعاية والأمان، ومخاوفها تكاد أن تنطق، بمعرفة أن أحراش القرى وأوديتها ممتلئة بالحصاني، والذئاب، فكيف ستتخطى قلق منام الليل على دجاجاتها.
شعر سعيد بأفكارها من حركة عينيها الجميلتين، ونظراتها للنافذة، فسألها مبتسماً، ثم ما لبث أن سكب من سلام محبة كفيه وعينه، وعطفه، وحلو لسانه ثجاج السكينة، وهو يطمئنها بأنه يمتلك غرفة سفلية تحت منزله، وأنه سيستودع الدجاج فيها ليلاً، وطمأنها، لتقر عينا وتحل، وبأمنيات منه أن تأمن وتحب المكان، وتغدو ملكة القلب المتوجة بالرسوخ.
أجواء وروائح ربيع، وطبيعة خضراء تحكي، بأجمل صورها، وحقل سعيد الصغير العاشق ملموم هو الآخر بالبراعم يهب الوعود، ليس فقط للزوجين، ولكن لتغذية الدجاجات، وسقياها، التي سرعان ما ألفت المكان، وزاد نبشها لما تحت أقدامها، فتكاثرت أعدادها، وكثر بيضها.
هنا تمايل السراج، وساد النعيم، وكان الغرام، والشواع، والضحك، وسط شهور من السعد تتالت، حتى أصبح البيت مرتعاً للحب، والأحلام والمسؤولية، وللابن البكر، ولعمار كان يطوف بالجدران والسقف، وجيرة من الوصل، وتعاقب قدوم الصغار، ممن كانوا يمتلكون شغف أمهم نفسه، في محبة ورعاية الدجاج، وكتاكيتها.
عاشت القرية قصة حب قانع، وعطف ضافٍ، وتعاطف حميم، وتميز عن كثير من بيوت أهل القرية، ممن لم يكونوا مغرمين كثيراً بالبيض، ولا بالدجاج، ما جعل حليمة تفكر في إرسال بعض محصولها لسوق الثلاثاء، الذي يبتعد عن قريتهم مسافة مشي ساعة، فتطلب من سعيد أن يذهب ويبيع البيض الفائض، ولعله كان محرجاً في البدايات، ولكنه تشجع من أجل عينيها، ولكي يلبي بعض طلباتها، وخصوصاً عندما وجد محصول الأسبوع من البيض، يُختطف في سوق أبها بأسرع مما يتخيل، وأنه يتمكن بثمن البيعة من التقضي لما تحتاجه لبيتهما، الذي وجد باباً للرزق، والنماء والزيادة، ما جعل السعادة تزداد اكتمال بدر في سماء بيت حب وسكينة رغم عدد الأطفال وشقاوتهم.
حليمة ظلت عفية تتحدى الزمن، وشابة رقيقة هيفاء أنيقة محبوبة في القرية، وما سعيد إلا جذع شجرة حماط معمرة تعالت، فاستقر مقامه وتمددت أغصانه راوية بالمحبة مروية بالظلال، حتى أصبح أهل القرية يشعرون بوجوده ودفئه في بيوتهم، وعرفوا أن الحب قد لا يتطلب التوازي في السن، بقدر ما يحتاج إلى التفاهم، والولع، والدلع، والتقدير، وعيون امتلأت سعادة بمشاركة تحقيق الحلم الجميل.
سعيد كان داخله يتعجب من دنو ثمار قلبها، وكيف أنها لم تكن أغصان شوك متسلقة متطلبة، تطاول المستحيل، ولكنها نعومة تغزل المستقبل بيديها، ودون إظهار العجز أو الضيق، فلم تطل بهم السنين حتى أصبح بيض دجاجات حليمة مشهوراً في أوساط أهل أبها يطلبونه بالاسم، فهو بيض بلدي، من عمق نقاء مكونات خيرات الحقل البكر والبركة.
حليمة الحالمة كان شعورها وعقلها يتنافسان في سمرات الحوار، وقد شعرت بحرج زوجها من النزول إلى السوق، فأعفته من المسؤولية، واتفقت مع كهلة حريصة أمينة بالقرية تباري أعمار الشابات للتسوق بمحصولها، ضمن ما تسوق به من خضراوات وفواكه وسويقة وسمن، ولبن، ومن سائر الخيرات البسيطة.
فعلاً لقد تعبت قدما سعيد رغم ما تحضر له من العريك والبر بالسمن، فخففت عنه تكرار النزول للتسوق، كونها بعقلها ترسم خطوات المستقبل معه، وتتمنى أن يكون حال ذريتهما أفضل من حالهما، فأشارت عليه أن يأخذ أطفالهما للمقرئ شيخ المسجد، والذي كان يُعَلِّم بعض أطفال القرية، ممن لا يحتاج أهاليهم إلى جهودهم في الرعي أو في العناية بالحقول، فكان لها ذلك شغفاً، جعلها تأخذهم بنفسها للمقرئ، وتحضر لهما الألواح، والفحم، ليكتبوا بها الحروف والكلمات والأرقام مثلما يفعل أبناء المقتدرين، فهي لا تريد أن يشعر أطفالها أنهم أقل من غيرهم، وفي الوقت نفسه حرصت على إرضاء المقرئ، وإكرامه ببعض بيض دجاجاتها الشهير أجراً له على حسن صنيعه.
سنوات مرت كالسحاب، والصغار يكبرون، وسعيد يسقط من ظهر حماره المرتعب من مرور حية صفراء، في منعرج ضيق، على جرف حاد، فيصاب بجروح وكمدات، قللت من حركته، وعجز المداويون في إعادة نشاطه القديم كما كان، ولكن محبته لحليمة، ظلت مشتعلة الجمر مثلما كانت.
حليمة لم تكن تقف دون حد يطال، وفكرها ظل يحملها بأجنحة فراشات وأمنيات وخطوات أبعد، وأحلام لا تعتمد فقط على بيض الدجاجات، فكانت تنزل بنفسها للسوق، وتتجه لمبنى الإمارة والقشلة، وتبحث لابنها الكبير عن عمل حكومي، فهي تعرف أن الدنيا تسير لاستقرار وثبات لا تتوقف صوره، وأن الطموح يحيي الأنفس، ويحتضن الصغار، ويعطيهم الأمل والمسؤولية، فكان أن تم توظيف ابنها الكبير في الجندية، وحليمة لم تقل لهم: خذوه لحماً وأعيدوه لي عظماً، بل قالت: خذوه حلماً، وأعيدوه لي يقظة.
قمة سعادة الحياة أشعلت مشاعل مشاعر ذلك اليوم، حينما دخل ابنها القرية بعد فترة استجداد، وتجمع أهل القرية يباركون لهم بفوزه، وهو يرتدي بذلة عسكرية وكاباً وبسطار، رفعت من قيمة منزلهم الصغير، ليرتقي بين صخور الجبال.
ويقفز سعيداً إلى النافذة ودمعات في عينه يعجز عن فهم جميع خفاياها، وسط نظرات تعاطف شعر بها الجميع تجود بسلام غامر وفخر، وحتى تلك الدجاجات، التي باضت يومها بأكثر من المعدل.
دجاجات حليمة كانت مشاركات في الحلم والجهد والعطاء، والمحبة، ولم تتوقف بيضاتها من النزول إلى سوق أبها، بضاعة مميزة مطلوبة، وكون ثمار نتاجها مكن الأخ الثاني من الحصول على وظيفة مدنية في إحدى المدارس هو الآخر، وأن الحلم قد بدأ في التوسع، وتزايدت في المكان الأنفس، وتزوجت ابنة حليمة الأولى، ولكنها تقرأ وتكتب، ولم تكن بسن حليمة نقسها حينما تزوجت، وهي لم تذهب لعريسها على جمل أو حمار، فكان زوجها جاراً لهم في القرية ذاتها، يعرف عنها الكثير مما يقال ويسري همساً بين البيوت، وقد عاش عشقه لها بالصورة البعيدة، وهي حورية تدور في حقلهم، واستشعر حنانها وحرصها وهي تعتني بدجاجات أمها.
نظرات وتفسيرات لأهل القرية مختلفة كانت تحكي عن شخص حليمة ودجاجاتها وبيضها، وعن زوج حمل الكون بين يديه عطية وهدية، وسمعة بيضاء، وقرب مصير علاقة طويلة بالقرية اقتربت على الانتهاء، فالابن الكبير أصبح له مكانة في أبها، واشترى منزلاً طينياً، وتزوج، وطلب من أهله أن ينتقلوا معه، حيث يظهر أن حياتهم تنتقل محورياً من فصل جميل إلى فصل جديد أجمل، وأن بيع البيض لم يعد مهنة لهم، رغم معرفته بأن أمه لن ترضى أن تترك الدجاجات وحدها، ولا أن تبيعها لغيرها، فكان شرطه لشراء البيت أن يكون فيه سفلي للدجاج، يبلغ به بر أمه، وشرطه الثاني أن يكون قريباً من دار الصحية، حتى يتمكن والده من مراجعة المداوي بشكل يسير، وكل ذلك براً بهما في كبرهما، وهو حبل بر طويل يربط عيني حليمة وسعيد بماضي وحاضر أحلامهما، بين أحفادهما، من تربوا على عشق وبياض بركات الدجاج.