حامد أحمد الشريف
لا شكّ أنّ أكثر ما كان لافتًا في رواية «مسعود» للكاتب السعودي عبدالله النجدي هو قدرتها على الهروب من معوّقات السرد، والقفز على خياراته الصعبة التي بقدر ما تمنحنا بعضًا من المتعة المنشودة، تسلبنا متعةً أخرى نتمنّاها ونحزن كثيرًا لفقدها؛ كما هو الحال مع تقنيّة رواية الحكاية ونقْلِها للمتلقّي، إذ إنّها تمرّ بمنعطفات كثيرة تقلّل أو ترفع من قيمة السرد حسب هويّة الراوي الافتراضي وطريقة سرده، والضمير المستخدَم للتواصل مع أبطال العمل ومع المتلقّي على حدّ سواء؛ وهي اللحظة الأصعب بالنسبة للساردين، إذ يعانون كثيرًا قبل اتّخاذهم القرار باعتماد أحد هذه الطرق المتعدّدة التي لها ما لها وعليها ما عليها، فهي بقدر ما تمنحك من امتيازات في الحكي، تحجب عنك امتيازات أخرى يصعب اجتماعها بسبب فرضها منهجيّة معيّنة للتبئير تُلزم السارد بقدر محدّد من المعلومات، وبزوايا معيّنة للرؤية، لا يمكن له تجاوزها. فالرواي، من داخل النصّ أو من خارجه، يستلزم قيودًا مقرّرة لا فكاك منها، وإلّا نكون قد أفسدنا هيكليّة السرد وبناءَه. ذلك أنّ الراوي الخارجي أو ما يسمّى بـ «الراوي العليم» أو «كلّي العلم»، عندما يتحدّث بضمير الغائب ويُخرج نفسه من السرد تمامًا، مكتفيًا برواية الحكاية من مكان يطلّ على كامل الحدث، فإنّه بذلك يلمّ بكامل المشهد السرديّ ويتحرّك بأريحيّة كبيرة في كلّ أرجاء الفضاء المكانيّ، ما يمنحه القدرة على تفسير المواقف والدخول إلى أعماق نفوس أبطاله على درجة واحدة من المساواة، ومنحهم جميعًا امتيازَ التعبير عن سيرورة الأحداث، كلّ واحد من زاويته، من دون أيّ تحفظ، وبذلك تتعدّد زوايا العمل، ويبتعد عن الأحاديّة.
وكلّ هذا – بالطبع - جميل ورائع، وهو مطلب ملحّ في السرد، إذ كان السائد في بدايات ظهور جنس الرواية الغربيّة وانتشارها؛ إلّا أنّ هذه الطريقة، غالبًا ما تُفقد النصّ السرديّ حميميّته، ووجدانيّته العالية، وتلقّيه الرائع الذي يتمنّاه الحكّاؤون، إذ تُفقد المتلقّي - غالبًا - انتماءَه للحكاية، ومعايشتها بطريقة واقعيّة، واندماجه الكامل معها والتصاقه بها، وتقلّل من الاعتماد على فطنته وقدرته على التنبّؤ بما خفي من السرد، واستكمال حلقاته المفقودة؛ وهي بالتالي لا تعير ذكاء القارئ أيّ اهتمام، ولا تجتهد في البحث عنه؛ فالراوي العليم قلّما يتوقّف عن قول كلّ شيء، إذ لا قيود تمنعه من ذلك. وربّما أغرته طريقة السرد هذه بالإسهاب، فهو يتلبّس كلّ بطل من أبطاله، ويتحدّث على لسانه، ويتبارى مع الآخرين في تفسير وتحليل المواقف، وإدارة الصراع، حتّى الوصول إلى النهاية وإسدال الستار على الحكاية.
ولعلّ ذلك ما أظهر لنا تقنيّةً أخرى للسرد يلجأ إليها بعض المؤلّفين، باعتماد ضمير الغائب وسيلة للحكي، يستخدمه الراوي العليم أيضًا، ولكن، في هذه الحالة، يدخل به إلى داخل النصّ السرديّ بغية تجاوز بعض الإشكاليّات السابقة، وذلك من خلال شخصيّة هامشيّة لا مساس لها بالحدث، يُسند إليها السرد. لكنّه، بسبب ابتعاده عن الصراع وعدم تأثّره به، يظلّ أقلّ حميميّة وقربًا من الراوي الداخليّ بضمير المتكلّم، الذي ينصهر داخل الأحداث، ويعيش صراعاتِها، ويرويها من موقع الحدث، ويُظهر تأثّره بها وتأثّرها به. ومع أنّ طريقة السرد هذه تعَدّ الأفضل إذا نظرنا إليها من زاوية المؤلّف وقدرته على بناء علاقة رائعة بين الراوي المتكلّم والمتلقّي الذكيّ، فإنّها تُظهر ضعفًا ملحوظًا في باقي الشخصيّات، إذ يكون مرورها عليهم سطحيًّا لا يتجاوز الأفعال الظاهرة المشاهَدَة، أو تذهب باتّجاه التوقّعات غير المؤكَّدة، وتمنع من الدخول إلى الأعماق النفسيّة وتفسير السلوكيّات وتوظيفها لبثّ الأفكار التي ما خُلق السرد الحديث إلّا من أجلها.
لذلك، غالبًا ما يكون الكاتب في حيرة من أمره وهو يقرّر اختيار أحد هذه الطرق، واستثمار إيجابيّاتها والتغاضي عن سلبياتها. لكنّ كاتبنا هنا قرّر الخروج على هذا العُرف السرديّ، والجمع بين كلّ هذه الطرق السرديّة، واستثمارها بطريقة مجنونة، ومحاولة الاستفادة منها وتقليل الأضرار الناتجة عنها. وقتاله – في ما يبدو – من أجل الوصول إلى العدميّة السلبيّة التي أظنّه اقترب منها؛ فهو وضع السرد في يد مسعود بضمير المتكلّم من داخل النصّ، لنجني ثمار هذا الضمير عندما يُبحر في تعرية نفسه، ويطلعنا على أدقّ تفاصيلها السلوكيّة والعاطفيّة، ويوقفنا على فلسفته ونظرته المتعمّقة للحوادث، إذا ما اعتبرناه أنموذجًا للرجل البدويّ الذي يمكننا من خلاله فهم عالم الصحراء في الحقبة التي تخبرنا بها الرواية. إلّا أنّ المؤلف رغم كل هذا الثراء، لم يكتفِ بذلك، بل منحه مهمّة أخرى غايةً في الأهمّيّة، عندما جعل منه ساردًا عليمًا من داخل النصّ، يروي الأحداث حسب مشاهداته واحتكاكه بأبطالها وتفاعله معها، مستخدمًا ضمير الغائب. وهو بذلك قد جمع بحِرَفيّة عالية بين التبئير الداخليّ والخارجيّ في آن واحد، خلاف إتيانه بالتبئير العدميّ.
لقد اختار أن يكون الراوي مشاركًا حسب التقسيم الذي أتى به الناقد الفرنسي «جان بريون»، بحيث يتنقّل بين أكثر من طريقة للسرد. وقد منح كلّ هذه الامتيازات للسارد الأساسي «إيلي»، وأضاف إليه - كما إلى بطل الرواية مسعود - ما يشبه قدرات الراوي العليم من خارج النصّ (بضمير الغائب) في بعض جزئيّات السرد البسيطة، عند الحاجة للحديث عن الراوي المتكلّم من زاوية بعيدة عن نظرته الشخصيّة، ومن خارج الحكاية التي يرويها؛ إذ جعل معرفة الراوي تخمينيّة لا يمكن الجزم بها. وبذلك استطاع بحِرَفيّة عالية أن يأخذ بأيدينا لمتابعة قراءة العمل بكلّ طرق السرد المعتادة، وطرق التبئير المختلفة، وتحمُّل الصعوبات التي سيتعرّض لها عندما يكون مجبرًا على اعتماد تعدّد الأصوات، واختلاف الزوايا، والتفرّد في اللوازم المستخدمة، وتنوُّع الأساليب السرديّة والبنيويّة لكلّ سارد على حدة. وأظنّه قد نجح في ذلك أيّما نجاح، حتّى أنّني لم أرصد غير حالة أو حالتين من تشابه السرد، أو لنقل، استخدام اللازمة نفسها لأكثر من راوٍ، كما حدث مع مسعود عند استخدامه اللوازم الجميلة نفسها التي برع فيها إيلي، كقوله في ص : «ذكي جدًّا، أنقذ خطّتنا من الفشل». وهي اللازمة التي تردّدت كثيرًا على لسان إيلي، وخلقت حميميّة كبيرة بينه وبين المتلقّي؛ وكان الأجدر بالكاتب إبقاءَها في خُرج إيلي وعدم تطاول مسعود ووصوله إليها.
تكرّر ذلك أيضًا في ص ، وقت عاد مسعود إلى الأسلوب السرديّ نفسه، مقلّدًا إيلي في قوله: «ما أقواه! فطعنته مرّة ثالثة في وسط بطنه». ذلك – بالطبع - لا يعيب العمل على الإطلاق، وإنّما يبرهن على حجم الصعوبة التي احتملها الكاتب في سبيل منهجيّته الكتابيّة الإبداعيّة التي لا تخلو من تحدّيات نجح فيها بامتياز. وكما يقال: كفى بالمرء جمالًا أن تُحصى معايبه.
ولعلّنا نختم في هذه الجزئيّة المحوريّة والمهمّة فنقول: إنّ الكاتب استطاع ببراعة كتابة ثلاثة أعمال سرديّة مكتملة الأركان، تحت عنوان واحد، وفي قالب سرديّ رئيس واحد، وفق هذه المعادلة التي تحدّثْتُ عنها: في تعدّد الرواة، واختلاف الضمائر، واعتماد التبئير بفروعه الثلاثة المهمّة؛ لنجد أنفسنا ونحن نتابع جنون المؤلّف، نعيش حكاية كاملة تدور في الصحراء، كان فيها تصوير دقيق لحياة بدو الجزيرة العربيّة ما قبل قيام الدولة السعوديّة الحديثة، بحيث يمكن سلخها والاعتماد عليها في صنع ملحمة دراميّة رائعة! واعتمد في كتابتها على حبكة شديدة التعقيد والإتقان، لم تخلُ من التشويق والإثارة، والتعريف بكلّ متعلّقات هذه الحياة، من مشهديّة وخبريّة، وعادات وتقاليد ومفردات، قلّما تجتمع في عمل واحد، مستخدمًا الحواشي لفكّ طلاسمها وشيوعها بين المتلقّين.
ومع أنّ ما بُذل من جهد في هذا العمل السرديّ، في ما خصّ البدو، كان كافيًا لمنح العمل ما يستحقّه من اهتمام وتقدير، ويؤهّله لنيل أرفع الأوسمة - ولم يكن المؤلّف بحاجة لغيره - إلّا أنّه، كما أسلفنا، اختار خلق الصعوبات وتجاوزها؛ حتّى أنّه لم يكتفِ بذلك، بل أتى لنا بعمل سرديّ آخر يرصد الحياة الاجتماعيّة في مشفى خطّ التابلاين، الذي يتضمّن مزيجًا من ثقافات مختلفة، بما تحمله من قيم وإيدلوجيّات، وطباع وسلوكيّات، إذ حوى عدّة جنسيّات (عربيّة وأجنبيّة) ممّن اختلطوا بسكّان مدينة «عرعر» قبل تمدّنها، عندما كانت تحاول التفلّت من بداوتها وركوب قطار الحضارة.
وكان هذا أيضًا عملًا سرديًّا متكاملًا، لا يقلّ جمالًا عن سابقه، رغم ضيق مساحته السرديّة وقلّة أبطاله مقارنة بالدراما البدويّة. وكعادة المؤلّف، كان دقيقًا جدًّا في صنع الشخصيّات، وسخيًّا في إغراقها بإبداعاته الكتابيّة، واجتهاده لإخراجها من السطحيّة، وتعمُّد الغوص في ثنايا كلّ شخصيّة، من خلال تقنيّات السرد التي سبق ذكرُها؛ وكان في تعدّد الشخصيّات وتباينها ما يجعل هذه الحكاية تستأثر باهتمام القارئ هي الآخرى. كلّ ذلك يشير - بالطبع – إلى الصراعات الفنّيّة التي يخلقها المؤلّف ويتغلّب عليها، بغية الاستمتاع والإمتاع. وليته اكتفى بذلك، بل إنّه خلق لنا حكاية مستقلّة نقلَنا من خلالها إلى فضاء مكانيّ مختلف كلّيًّا في كلّ أبعاده السرديّة، هو لبنان خلال الحرب الأهليّة، واجتهد للإتيان بها بكلّ تفصيلاتها الدقيقة وبعمق شخوصها، وجعْلها قائمة بذاتها؛ حتّى أنّه يمكن تجزئتها هي الأخرى والاكتفاء بها كسرديّة مهمّة ترصد الواقع المؤلم الذي كانت تعيشه لبنان في تلك المرحلة، رغم المساحة السرديّة الضيّقة التي مُنحت لها.
لا تستطيع إزاء جمال السرد ودقّته واحترافيّته العالية إلّا أن تُكبِرَ لدى هذا الكاتب السعودي تخطّيه الحدود الجغرافيّة، وذهابه باتّجاه منطقة بعيدة، بالغة التعقيد في مكوّنها البشري وطبيعة الصراع الأيديولوجي والاجتماعي الذي تعيشه، وتأثّرها الشديد بحقبة الاستعمار الفرنسي، وبتعاقب الحضارات المختلفة التي مرّت عليها على مدار التاريخ الإنسانيّ، من قَبل الميلادّ. كان المؤلِّف بارعًا في خوض هذا التحدّي الكبير، ونجح فيه رغم اعتماده على منهج التكثيف والاختزال وتقنيّة سرد القصّة القصيرة، كقوله في ص : «ذهبت إلى دكّان العم بطرس عصر اليوم، فوجدته مقفلًا على غير العادة، سألت جاره صاحب الملحمة، فأخبرني أنّ ولدهم مكسيم قتل هذا اليوم في تبادل إطلاق نار مع بيروت الغربية». لقد كانت هذه العبارة البسيطة فقرة كاملة معزولة عن باقي السرد، أجاد ربطها - كعادته - بطريقة ذكيّة، ليطلعنا من خلالها على جزء مهمّ من الحكاية المتعلّقة بالحرب الأهليّة عندما يُستخدم المواطنون وقودًا لها، فضحاياها هم إخوة متجاورون، تربطهم الكثير من الوشائج، ويتمّ التضحية بهم خلال حرب عدميّة لا طائل من ورائها. وهو ما يتوافق أيضًا مع إشارته الجميلة للحالة اللبنانيّة ص ، عند حديثه عن موت صديقه كريم، بتفصيلاته المؤلمة.
ولعلّنا نأتي الآن على الجزء الأهمّ المتعلّق بتوظيف الرواية لبثّ أفكار وفلسفات لا علاقة لها بجوهر الحكاية وتُعَدُّ في نظر النقّاد نوعًا من المثاقفة أو التباهي بثقافة الكاتب وفلسفته، وهي بالطبع مرفوضة في أصلها؛ فالأعمال السرديّة لم تُخلق لهذا، وكثير من النقّاد يُضعف العمل إن استشفّ وجود الكاتب بين ثنايا السرد، فكيف بهم إن وجدوه يقوم بفرد عضلاته واستعراض قدراته! فالسرد قديمًا وحديثًا ما خُلق إلّا لرواية الحكايات بعيدًا عن راويها، وتركها بين المتلقّين ليستلهموا منها العِبَر، دون التصريح بأهدافها ومغازيها العميقة؛ فأكثر ما يعيب السرد هو بثّ الأفكار أو الفلسفات بشكل صريح، أو توظيفها في الموعظة المباشرة، والتذاكي على القارئ بإقحام كلّ ذلك في السرد أو في الحوارات.
ذلك ما جعل أغلب الكتّاب ينأون بسردهم عن كلّ ذلك اللّغط، مكتفين ببعض الأفكار والفلسفات البسيطة المسرودة ببساطة على لسان الأبطال، بحيث يمكن تقبّلها، وليس فيها استفزاز للقارئ، أو إفساد لمعادلة التلقّي الجيّد التي تقتضي عدم تعالي الكاتب أو النصّ؛ إلّا أنّنا مع رواية «مسعود» وجدنا أنّ الكاتب لا يبالي بكلّ هذه المحاذير، ويحمّلُ نصّه بعدد هائل من الأفكار والفلسفات الرائعة، معتمدًا بالدرجة الأولى على جمالها الذي - يقينًا - يقلِّل من رفضنا لها، وممتطيًا صهوة ذكائه الكتابيّ في تبريرها والإتيان بها في سياق السرد، مستخدمًا لغة أدبيّةً أخّاذة استولت على أغلب الصفحات، كقوله ص : «حيث كان خط التابلاين يتقيّأ نفطه على ساحلها في مرفأ الزهراني تحديدًا»؛ ووصفه الجميل للذكريات المؤلمة في ص بعبارة «ذئاب الذكريات»؛ وقوله في ص : «ما أغباني! كنت أتأمّل في يوم ما أن أكون الشمس التي تضيء حياتها، فاكتشفت أنّني لن أكون سوى مصباح مضاء وقت الظهيرة في فناء روحها»؛ كذلك قوله ص : «تركت القلم وحبره ما يزال في عروقه، لم تنزف منه قطرة واحدة...» إلخ؛ وقوله في ص : «لا تكن كعود الثقاب هذا، لا تدع امرأة في الدنيا تطفئك»؛ وقوله في ص : «يمتدّ جمالهن بقدر انكماش ملابسهنّ»؛ وكذلك قوله في ص : «لا يعود العود عودًا بعد أن يُلقى في النار يا أخي! يكون جمرًا ثم رمادًا! أحرقني النشمي يا أخي… أحرقني».
إنّ إبداع النجدي منقطع النظير في تصويره غروب الشمس الذي تكرّر كثيرًا في السرد، فأتى به بأساليب كتابيّة غاية في الروعة، وبمفرداتٍ وجملٍ شاعريّة لم تتكرّر على الأرجح في كامل العمل، كقوله في ص : «بدأت السماء تنزع عنها وشاح النهار الأبيض…» إلخ؛ وقوله في ص : «دفنت الشمس نفسها في قبر الأفق...»؛ وقوله في ص : «أزفت الشمس إلى الغروب، وبدأ الليل يلتهم النهار»؛ كذلك قوله في ص : «بدأت الشمس تلمح لرغبتها في المغادرة ففهمن ذلك وأنهينا حديثنا». كلّ هذا وأنا لم أتطرّق بعد لأنسنة الأشياء وتشيئة الإنسان التي برع فيها الكاتب وأوردها في أكثر من موضع، ويمكن ملاحظتها في وصفه الجميل لغروب الشمس. وإنّما سبب ابتعادي عنها أنّ هذه المساحة لم تعد تتّسع لكلّ ما يحمله هذا العمل العظيم من إبداعات يمكن للقارئ الوقوف عليها بنفسه.
هذه اللغة الجميلة والعميقة بدا وكأنّ المؤلّف يستخدمها بتحدٍّ لتمرير تجاوزاته السرديّة، كبراعته المتجلّية في تحليله الرائع للحرب الأهليّة، ورسمه للعلاقة بين السادة والأتباع وتأثيرهم بالحرب وتأثُّرهم بها (ص )، ما دفعنا للقبول بها تحت ضغط جمال اللّغة، خلاف حُسن توظيفها في السياق السرديّ باعتمادها على ارتداء «إيلي» رداء الراوي العليم مجازًا، بما يملك من مواصفات شخصيّة وخبرات حياتيّة أظهرت مقدرته على إيراد هذه الفلسفة العميقة. وكأنّه بذلك يشير بذكاء إلى أنّ قوانين السرد ليست مُنزلة، ويمكن الأخذ بها بالقدر الذي تستوجبه معطيات الموقف السرديّ. يتجلّى ذلك مثلًا، في ص ، عندما يتحدّث كريم ابن صيدا عن فلسفة الحبّ والكره في حواره الجميل مع إيلي، قائلًا: «في الأفراح يأتيك الناس لأنّهم يحبّونك ويحبّون الفرح، أمّا في الأحزان فإنّهم يأتونك لأنّهم يحبّونك مع كرههم للحزن، ففي حالة الفرح لا يضحّون بشيء من أجلك، أمّا في حالة الحزن فهم يضحّون بفرحهم لأجل حزنك. هل يستويان؟!» قد يُعيب البعض، في هذا الحوار، الذهاب باتّجاه شرح وتفسير مغزى القائل، وهو من محاذير السرد، إلّا أنّه كان مبرَّرًا هنا، ولا يمكن رفضه، طالما كان الحوار مبنيًّا على دفع تهمة تستلزم إيصال المغزى واضحًا؛ وفي ذلك إشارة إلى ما كنّا نتحدّث عنه من قدرة المؤلّف على تجاوز الأنظمة وتبريرها، والإغراء بمتابعته عليها.
ولعلّنا نختم هذه القراءة بالحديث عن الجانب الفلسفيّ للعمل، من خلال إيراد بعض الشواهد الدالّة عليه، كفلسفته للحبّ والكره التي أوردها في ص على لسان «سليمان»، بغرض تمريرها، وكان قد خلق لنا شخصيّة تتمثّل كلّ هذه الفلسفات الحياتيّة وتطبّقها، ولم نعد ننكر عليه مطلقًا أيَّ فكرة يأتي بها تنسجم مع نمط شخصيّته التي غرسها في أذهاننا، كقوله في حواره مع إيلي: «مَن لا يحبّك فهو يكرهك بدرجة ما، ومن لا يكرهك فهو يحبّك أيضًا بدرجة ما». فلسفة عظيمة تشير بشكل مقنع إلى عدم حياديّة المشاعر مهما حاولنا التشدُّق بذلك، أجاد المؤلّف في تمريرها وتبريرها… وفي ص نجد الراوي العليم تداخل في السرد من خارج النصّ، بإيراده فلسفة الخروج على العادات والتقاليد والأعراف السائدة، من دون إسنادها لأيٍّ من أبطاله، قالها هكذا كنتيجة للقصّة المسرودة، وهو بذلك قد وقع في أكثر من إشكاليّة من حيث إيراد فلسفة معيّنة خارجة عن سياق السرد لم يجتهد في تبريرها كعادته، وكذلك تغييبه لقدرات المتلقّي العقليّة التي يُفترض استخدامها في مثل هذه المواضع استنتاجًا وتحليلًا، خلاف الإشكاليّة المهمّة التي نحن بصددها، وتتعلّق بتوظيف السرد لإظهار قدرات الكاتب الفكريّة والفلسفيّة؛ لكنّني قبلتها وفُتنت بها، ولا أعلم سبب ذلك! ففي هذه الحالة تحديدًا لم يورد الكاتب ما يبرِّر فعلته سوى اعتماده على الحميميّة التي أصبحت تربطني بالعمل. وبشكل عامّ، الرواية مليئة بعدد من الفلسفات الرائعة التي يمكن مطالعتها، ويصعب الإتيان بها جميعًا هنا، لذا أكتفي بالإشارة إلى بعض منها، كفلسفته العظيمة عن الجوع والشبع التي أوردها في ص ، قائلًا: «فيكم أنتم الحضَر من القسوة ما يفوق البدو، لكنّ سعة العيش التي أنتم فيها تُبقي هذه القسوة مختبئة، لو مسّكم الجوع لظهرت».
ويمكن أيضًا الوقوف على فلسفة عظيمة تتعلّق بالكتابة والقراءة والنقد، بتفصيلاتٍ غاية في الروعة، أوردها المؤلِّف في ص ، وكان أجمل ما فيها قدرة الكاتب على تمريرها ببراعة من خلال إلصاقها بأديب مصريّ كان له من المواصفات ما يمنحه القدرة على قول كلّ ما قاله بحقّ الكتابة والنقد الأدبيّ، بدءًا من قوله: «الكتابة صرخة من فم قلم…» وصولًا إلى قوله: «الكتابة مشاعر وآراء مستورة…» إلخ. ولعلّي أنصح بشدّة بمطالعة هذه الفلسفة العظيمة التي أظهر الكاتب قدرة على سردها داخل النصّ، رغم انتفاء العلاقة ظاهريًّا؛ وهو ما يمكن رصده أيضًا في ص ، عند الحديث عن الكتابة الوجدانيّة، في قوله: «الكتابة الوجدانيّة هي توصيف اللّحظة»؛ وقوله لاحقًا في سياق الحوار عن الكتابة الوجدانيّة: «ولا تعني أبدًا توصيف الحياة كاملة» (ص 155)؛ وعند حديثه في ص أيضًا عن الكُتّاب الإنشائيّين، حيث يقول: «يمشّطون جدائل الحروف، وهم يعانون الصلَع الأدبيّ». وقوله في حقّ الذائقة المثقوبة: «أنّ هناك من تعجبه تلك التسريحة المزعومة، وهذا صلع آخَر اسمه صَلَع الذائقة».
أودّ الإشارة هنا، قبل إنهاء حديثنا عن هذه السرديّة الرائعة، إلى أنَّ كلَّ هذا الجمال لا يعني غياب بعض الملاحظات التي لم ترق لي وتمنّيت غيابها، كإخفاق الكاتب - من وجهة نظري - في ص ، عندما أتى بفكرة خارج السياق السرديّ، من دون ربط حقيقيّ يبرّر وجودها، فاتّصالهالم يقنعني؛ وكان ظاهرًا تعمّده الإتيان بها على ذلك النحو. هذا تحديدًا هو النوع المرفوض من مثاقفة العمل السردي، وتوظيفه لإظهار ثقافة الكاتب وفلسفته، وإن كان مناسبًا بالنسبة لي وقوع المؤلّف في هذا الخطأ حتّى نعي الفرق بين الكسر المبرَّر للقوانين والكسر غير المبرّر والمرفوض كلّيًّا. كذلك إيراده في ص خبرًا أظنّه يحتاج للتحقّق منه، وذلك في حديثه عن مرور خطّ التابلاين بمرتفعات الجولان، وتوقّفه عن ضخّ النفط وقت احتلالها. وهذا بالطبع غير دقيق، فالمرور كان بقرى غير محتلّة من القنيطرة؛ وإنّما كان توقُّف تدفُّق النفط مدّة ثمانية أعوام (من وحتّى ميلاديّ) بسبب قرب هذه القرى من منطقة النزاع. وكان ينبغي الإشارة إلى ذلك، فالمعلومات التاريخيّة تحتاج من الكاتب الدقّة في إيرادها. ومن المواضع التي لم تعجبني أيضًا، رسالة «إليسار» ابنة أخت إيلي التي أوردها في ص ، نظرًا لعدم مراعاة عمر الفتاة وثقافتها، وخواصّها النفسيّة والكتابيّة، والابتعاد عن أسلوب الحكي واللوازم التي استخدمها كلّ من إيلي ومسعود.
ولعلّي أختم بذكر بعض الجماليّات التي استوقفتني كثيرًا، ويمكن إدراجها كشذرات تشير إلى كسر المؤلِّف النمطيّة المتّبعة؛ من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، قدرة الكاتب على بناء علاقة وجدانيّة بينه وبين القارئ، وظّفها بمكرٍ شديد لتمرير الكثير من تجاوزاته، كقوله في ص : «ولم يكمل التمساح كلامه! إنّني أعرف هذا العجوز الماكر…» إلخ. وللحقّ، فإنّ مثل هذه النوعيّة من الكتابة الأدبيّة الإبداعيّة تجعلك ترضى بها، وتنجذب إليها بمودّة، وتغفر للكاتب أيّ تجاوز يقوم به، وهو ما نجح فيه الكاتب بامتياز.
كذلك، من المهمّ القول، إنّ الكاتب، في عموم السرديّة، نجح في تشويق القارئ وإطلاعه على ما ينتظره من أحداثٍ جسام، بدون فضح الأحداث المتوقَّعة، من خلال الإشارة إلى أهمّيّة الحكاية ونهايتها الصادمة؛ وهذا يُعَدُّ من قبل التشويق الإيجابيّ. كما استوقفتني كثيرًا طريقة جميلة ومبتكرة استخدمها السارد لوصف نفسه في ص ، ووظّفها بطريقة رائعة، كنوع من الكسر الذي اعتمده نهجًا لسرده؛ فمع أنّه لم يختلف عن غيره في استخدام المرآة للخروج من هذه المعضلة السرديّة، إلّا أنّه تميّز في طريقة الوصف، وحميميّته، وقربه من المتلقّي، في قوله: «أمّا ما شاهدته الآن في المرآة فلم يكن سوى إيلي مهلهل نحيل بلحية رماديّة تملأ وجهه، لكنّها وللحق مهذّبة بشكل مقبول، غير طويلة وشارب على طريقة أهل عرعر غليظ طويل ما زال سواده يقاتل بياضه بضراوة!...» إلخ.
بقي القول، إنّ السارد لم يُغفل بعض التفاصيل الصغيرة التي يظنّها البعض غير مهمّة، وبعيدة عن سياق السرد، وغير مؤثّرة في تنامي الأحداث وسيرورتها؛ بينما كانت سببًا في حميميّة العلاقة التي تربط مقطوعته الأدبيّة بالمتلقّي، ووجدانيّتها، وهو ما نراه، على سبيل المثال، في ص ، في قوله: «وضع مسعود سبّابته في أذنه، وحرّكها بتلك الطريقة الاهتزازيّة المضحكة». وقد أتى بما يشبهها في كثير من المواضع، كوصفه لحكّ مسعود رأسه، أو حكّ ظهره بشجرة الكينا، أو حكّ ظهره بعصاه... وكذلك في وصفه لطرقه المتعدّدة في رمي السيجارة. تجلى ذلك أيضًا في عدم إغفاله إيراد قصّة الكلبة «سدحة»، في ص، وكان في ذلك تمامُ عدله وإنصافه السرديّ لكل تفاصيل الحكاية، ولعلنا نكتفي بهذا القدر مجبَرين رغم أنّ لدينا ما نقوله أكثر من ذلك، وإن كان من المهمّ تذكُر أنّ سر جمال رواية «مسعود» يكمن في كسرها للقيود!