سهام القحطاني
«كل شيء يغدو وكل شيء يعود؛ وإلى الأبد تدور عجلة الوجود، كل شيء يبيد، وكل شيء يحيا من جديد، وإلى الأبد تسير سنة الوجود»-نتيشه-
لم تكن جدلية الزمن مثار اهتمام الفلسفة القديمة فقط بل شملت الفلسفة الحديثة لتظهر لدينا فكرة «العود الأبدي» عند نتيشة والتي تقوم على أن الإنسان يعيش في أزمنة متلاحقة بذات طابع الحياة الأولى له، فهي تتكرر مع في أزمنته المتعاقبة، يقول نتيشه: «فهل يفنى المرء نهائيا من غير رجعة؟..أو سيظل الوجود يخلق أنواعا من الوجوه جديدة إلى غير نهاية؟ وهل حياتنا التي حييناها لحظة من الزمان قد ذهبت وغاصت في الماضي ولا سبيل إلى عودها من جديد؟.. إن الوجود الحقيقي تطور وصيرورة وحركة دائبة، ولكن الحياة لا يتسنى لها أن تقوم إلا إذا تصورت هذا الوجود على شكل وجود ثابت ساكن،.. هل أصبحنا عاجزين كل العجز عن أن نسترد الزمان الماضي ولم تعد لنا سيطرة عليه؟ كلا! إن لهذه المشاكل كلها حلا واحدا يتلخص في كلمتين اثنتين: «العود الأبدي» -عبدالرحمن بدوي، نتيشه-، ص247-348.
وبذلك فإن فكرة نيتشه تختلف عن فكرة التناسخ وإن تشاركتا في مسألة التعاقب، لأن التناسخ يقوم بتغير نسخة الفرد في كل تجدد سواء في طبعه أو هيئته، وكما قلت في الجزء الأول من هذا الموضوع أن فكرة التناسخ هي فكرة في مضمونها أخلاقية قائمة على «تطهير الذات» قبل الموت ليحظى المرء بحياة مختلفة في حيواته المتعاقبة ما بعد الموت الأول، لكن العود الأبدي تقوم على فكرة العقاب المطلق والثواب المطلق في دلالتهما المختلفة، فحياة الفرد في حيواته المتعاقبة هي ذاتها ما عاش عليها في حياته الأولى. «تكرار في صورة واحدة».
ولكن لو تفحصنا فكرة العود الأبدي سنجدها أنها فكرة «عنصرية مخيفة» لأنها تعني أن الضعيف سيظل ضعيفا والقوي سيظل قويا والغني سيظل غنيا والفقير سيظل فقيرا في حيواتهم المتعاقبة.
أما آينشتاين فقد ربط الزمن بالسرعة فكلما زادت السرعة أو قوة الجاذبية أدت إلى تباطؤ الزمن، وبالتالي فإن تباطؤ الزمن أو تمدده يعتمد على مدى السرعة وقوة الجاذبية، وهذا المبدأ أطلق العنان لبعض الخيال في الاعتقاد أن تجاوز سرعة الضوء قد يُنقلنا إلى أزمنة متعددة.
ورافقت نظرية تمدد الزمن نظرية «انحناء الزمكان» أو انكماش الأرض، أو «نقص أطرافها» كما في الآية الكريمة «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»- الرعد 41.
فسرعة دوران الكرة الأرضية حول محورها وقوة طردها المركزي يؤدي إلى «تفلطح-انكماش-القطبين».
لقد أسهمت نظرية آينشتاين والنظريات الداعمة لها في فتح أبواب الخيال الإنساني على مصرعيه للحلم بالخلود والسفر عبر الزمن، وكانت السينما أكثر وسائط الخيال مشاركة في تلك الجدلية سواء مؤيدة لإمكانية الفكرة وواقعيتها العلمية أو رافضة لها ومنكرة لتطبيقاتها الواقعية، أو محذّرة من تحول تلك القدرة إلى قوة تدميرية إذا وُضعت في يدّ الطغاة كما في الفيلم الشهير «مشروع آدم» الذي انتهى بتدمير مشروع آدم؛ لاستغلاله في تدمير الضعفاء والإنسانية.
وهكذا تقابلت جدلية الزمن مع فكرة ألهبت خيال العلماء والمبدعين وهي فكرة الخلود.
صحيح أن فكرة الأزلية فكرة صاحبت جدلية الزمن عبر أحقابها الزمنية وتعددت صيغ كيفية تلك الأزلية ومساراتها، إلا أن الخلود الأبدي للإنسان دون موت أو شيخوخة غلبت على كثير من الأفكار الفلسفية والعلمية وحتى السحر.
إن فكرة الإنسان النصف إله والنصف بشري في الأساطير هي فكرة للاحتيال على الفناء واكتساب الخلود؛ فالآلهة لا تفنى.
لقد كان الخلود والانتصار على الزمن فكرة رافقت التاريخ الإنساني وهو في سبيلها يفعل أي شيء كما فعل «جلجامش» وهو يبحث عن عشبة الخلود التي سرقتها الأفعى، ليتعلّم جلجامش بأن الخلود ليس قدرا مخصصا للإنسان في مستواه الزمني، لكن تحقيق دلالته ممكن من خلال الأثر الذي قد ينتصر على سلطة الزمن.
لكن الإنسان لم يتعلّم المغزى من أسطورة جلجامش، فما فتأ في البحث عن واقعية الخلود وتحقيقه فظهر مصطلح «أكسير الحياة» عقار سحري يمنح الخلود لمن يشربه.
وها هو اليوم يُعيد نفس التجربة لكن من خلال «الإنسان الآلي - الذكاء الاصطناعي» الشبيه بالإنسان في كل شيء إلا أنه يتفوق على الإنسان بخلوده لأنه يعيش في فضاء افتراضي ليس محصورا بتوقيت زمن، ليُصبح بذلك الإنسان الآلي هو المعادل لفكرة الخلود الذي سعى إليها الإنسان منذ تاريخه الأول على الأرض.