لطالما وجدنا في الكتب ما يعيدنا إلى ذواتنا فلا شيء أفضل من أن تقرأ في تجارب الآخرين الحقيقة، في سيرهم الذاتية، في معاركهم ونضالهم وانتصاراتهم لتتعلم منها. لتتقوى بها ولترى مخارج غير التي أمامك وتدرك بأنك لست الوحيد المتألم، لست الوحيد الذي يملك طفولة بائسة وعائلة ربما تكون متفككة، لست الوحيد الفقير واليائس لست الوحيد الذي يخسر لست الوحيد الذي يفقد أحلامه وتتبدد آماله والكثير من هذا وذاك. ولأنك تقرأ وتهضم عشرات المعارك وتشرب الكثير من المشاعر لسنوات وعبر مئات الكتب، تظن بأنك لا تضعف بل تتذوق منها النصر دون الفشل وحلاوة الفوز دون مرارة الهزيمة وتظل تعيش في خيالك تلك التجارب والصراعات التي قد تمر بك يوماً وتعتقد بأنك حتماً ستجد الحل المناسب للسؤال المناسب الذي سيأتي فيما بعد، في القادم من حياتك على حين غرة
. . .
أو هذا ما ظننته وربما فكر غيري به أيضاً والذي جعلني لا أفعل شيئاً طيلة خمس سنوات وأكثر سوى القراءة ولا شيء آخر. حتى التقيت بأفكار المازني في سيرته الذاتية ( قصة حياة) وأيضاً تلك التي جمعها
د. عبد الرحم ن قائد في كتاب « العمر الذاهب» والذي قرأته حديثاً ويضم كل ما تفرق من كلام المازني في شؤون القراءة وشجون الكتابة مستقصى من كتبه ومقالاته وحواراته. فكان كالصفعة التي أيقظتني من سباتي ولا أدري بعدها أين ذهبت قراءاتي الكثيرة التي خمرتها في ذهني طيلة هذه السنوات التي مضت.
كتب المازني عن معاناته هذه وشديد تأثره وتعلقه بالكتب وبالقراءة ولم يعي مقدار غرقه فيما يحب حتى شارف الأربعين ولم يبلغ علمه بالدنيا ولا فهمه بالحياة وإدراكه لحقائقها طفلاً يمد أصابعه إلى الجَمرات يحسبها لعبة أو طعاماً وهذا ما قاله عن نفسه ويضيف عليها «كانت عادتي ألا أبرح بيتي إلا وفي يدي كتاب وكنت أتخير الطرق المهجورة فأميل إليها ليتسنى لي أن أقرأ في كتابي وأنا آمن، فكان علمي بالدنيا ومعرفتي بالحياة قاصرين على ما يفيد المرء من الكتب وكنت أشعر من أجل ذلك كأني مغّرب عن الناس وأن الذي بيني وبينهم خرابٌ لا عمَار فيه وكنت أتصور الحياة معنى لا ألمس له حقيقة، وكانت تجاربي هي ما تمثله الكتب لإحساسي، وتُحضره لذهني، وتكشف لي عنه من وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم. وعشت خير عمري لا أعرف حقيقة الفزع والهول، ولا السرور واللذة، وإنما أعرف ما يوصف لي من وقعها،
فهل تجارب الآخرين تغنينا عن خوض تجارب الحياة؟
بالطبع لا
ولذا أريد أن أشير إلى حديث هنري ميللر عن الكتب في كتابه « الكتب في حياتي» حيث يقول
« سواء أكان المرء يسعى وراء المعرفة أم الحكمة يجدر به أن يتوجه إلى المنبع. والمنبع ليس المثقف أو الفيلسوف، ليس الأستاذ أو القديس، أو المعلم، بل الحياة المباشرة. لأن كل ما بُث في الكتب وكل ما يبدو حيوياً وهاماً إلى أقصى مدى ليس إلا مثقال ذرة من الأصل الذي نبت منه»
وأضيف عليه قولي إن الكتب لا تغني عن الواقع ومن الضرورة خوض تجارب الحياة خارج أبواب المكتبات والقصص إن القراءة نعمة لا يمكن نكران تأثيرها في تشذيب العقول وتهذيبها سواء لغوياً أو فكرياً وحتى عاطفياً ولكنها قد تتحول لنقمة عندما تكف عن أن تكون مصدراً للتثقيف والتعليم. وهذا يعيدني إلى المازني مرة أخرى عندما تحدث عن سلبيات القراءة موضحاً عن نفسه في سيرته الذاتية (قصة حياة) حيث يقول» كانت الكتب تعديني وتسحرني فأنظر إلى الدنيا بعيون أصحابها لا بعيني، وأحسها بقلوبهم لا بقلبي، وأتصور حياتي وأقيسها على ما يروقني من صور الحياة في هذه الكتب، وأنتحل آمال أصحابها ومخاوفهم، وهماتهم وعزماتهم، ومثلهم العليا، وصور الكمال عندهم، وأوحي ذلك كله على نفسي فأغتر لأني أرى نفسي كما رسمها خيالي الذي أُستمد من هذه الكتب».
وفي مقالة أخرى متحسراً يقول « أردت أن أعرض على ذهني ما أمدتني به الكتب من الهداية، وأن أبسط تحت عيني الذي رسمته لنفسي بمعونتها، فإذا الذي في رأسي من الكتب ضباب، وأن ظاهر التجريب لا يغني عن التجريب وتوهم الفهم ليس معناه الفهم»
لهذا أقول إن كثرة الانغماس في الكتب يكون مضراً على نحو لا يدركه المرء إلا بعد فوات الأوان لذا أخرج للحياة حتى تعركك وتفهم منها ما لن تعطيه لك الكتب. عليك أن تنتزع حقك في الوجود أن تكون حاضراً وأن تسمح لمشاعرك بأن تنمو وتتصل بالعالم الخارجي أن تصبح ملموسة لديك أن تحسها لا بالقراءة فقط بل أن تجري فيك مجرى النهر. ولا يصح ولن يصح مهما حاولت أن تستبدل تجارب الواقع بتجارب الآخرين، أقول قد نستمد منها النصيحة قد نتقدم بها خطوات صغيرة ونتجاوز بها الكثير من العثرات، قد تحذرنا أحياناً وترينا الطريق أحياناً أخرى، ولكن ليس كل شيء. فهي قادرة على أن تحجب عنك نور السعادة وطمأنينة الخشوع وتسد طريقك نحو ذاتك الحقيقية بمحوها منك وإبدالها بشخوص كتبك المفضلة، وهي وإن تمكنت منك قد تهلكك وتظل فيها عقد بأكمله دون أن تحظى بتجربة واحدة في الحياة التي بين يديك ودون أن يستشعر جسدك ما هو قادر عليه ولا أن يعرف عقلك أبداً بأن يفكر خارج الصندوق.
وأخيراً لي ولكم أحب أن أذكر الفكرة التي يقول عنها ميللر تافهة ولا يجب أن نعمل بها وهي
«إن علينا تعلم السباحة على اليابسة قبل أن ننزل المياه»
وهذا ما نقع فيه من خطأ حين نقرأ السير الذاتية ونخوض مع شخوصها التجارب التي يمنحونها لنا بالمجان فنستلذ طعمها ونستغني بها عن تجاربنا
وأريد أن أستغل الفرصة هُنا لأذكر نفسي وأنقل لكم بعض النصائح التي دونها ميللر في مقدمة كتابه عن القراءة لأصدقاء الكتب..
س/ ما الذي يجعل كتاباً ما يبقى حياً؟ يتساءل ميللر فيجيب.
1- الكتاب يبقى حياً عبر التوصية المحبة التي يقدمها قارئ إلى آخر لأن البشر يكافحون أبداً للتشارك في أعمق تجاربهم.
2- إن الكتب هي أحد الأشياء التي يدللها البشر بعمق، وكلما كان الإنسان راقياً يتشارك بشكل أسهل بمقتنياته العزيزة وكتاب يتمدد بتكاسل على رف هو ذخيرة ضائعة سُدى. وكالمال يجب جعل الكتب في حالة تداول مستمر.
3- استعر وأعر إلى أقصى مدى، كتباً ومالاً معاص، ولاسيما الكتب، لأن قيمة الكتب أعلى بما لا يُقاس من قيمة المال.
4- الكتاب ليس فقط صديقاً، بل يصنع لك أصدقاء. وعندما تمتلك كتاباً ذا عقل وروح، تغتني، ولكن عندما تعطيه لشخصٍ آخر تغتني ثلاثة أضعاف.
5- اقرأ أقل ما يمكن، وليس أكثر ما يمكن. لأن أصعب شيء في الحياة هو أن يتعلم المرء أن يفعل ما هو في صالحه. ما هو حيوي حصراً
6- عندما تصادف كتاباً ترغب في قراءته أو تعتقد أنك يجب أن تقرأه دعه وشأنه بضعة أيام. ولكن فكر فيه بأشد ما يمكنك من تركيز وحاول أن تتخيل ماذا سيعني لك عنوان هذا الكتاب أو اسم الكاتب
7- تحدث عن الكتاب الذي بين يديك أنشر ما تقرآه للأخرين إن الإنسان الذي ينشر الكلمة الطيبة ليس فقط يطيل عمر الكتاب بل أيضاً من عملية الإبداع نفسها. إنه ينفخ الروح في القراء الآخرين، ويدعم روح الإبداع في كل مكان.
وأختم بالقول إن على المرء أن يقرر من نفسه ما يريد قراءته وأي المجالات يفضله و يختار الإبحار فيه بهدوء وببطء دون عوائق ليصل إلى العمق قرير النفس لا يشكو من عدم الفهم أو الاختناق بسبب كثرة المشتتات. ابحث عن ذاتك بنفسك وفتش عن النور الذي سوف يضيء لك الطريق، وهو طريقك الخاص، طريقك الذي وُجد لأجلك أنت فقط. ولا تتكل كلياً على ما يرشحه لك القراء الآخرين ففهمهم للآمور وتأثرهم بها لا يتناسب بالضرورة مع فهمك وتختلف زاويتك عن زواياهم فلا الطرق واحدة بل تتفرع. ولكل إنسان نوره ونجمة المضيء الذي يتتبع آثره كي يصل إلى مبتغاه.
« إن المهم في الآمر ليس نوعية الكتب والتجارب التي على المرء أن يحصل عليها، بل على ما يضع فيها من عنده»
** **
- علا الحوفان
Twitter: @ola29x