تقع على المدخل الجنوبي لمحافظة بارق في منطقة عسير، قريةٌ تراثية عريقة، شكّلتها عراقة الذاكرة الجمالية وباحت بها أنداء الفلكلور التهامي، وقسمات المشيب الوضيئة.
قرية يجتمع بها كبار السنّ، يقضون ليل سمرهم مع من تبقى من أقرانهم، والذين يمكن القول إنهم كانوا يعانون من غربة الذات، وغربة الذاكرة أيضًا، فقد فقدوا جُل من كان يشاركهم تفاصيل تلك اللحظات الماضية.
مُحاطةٌ قبل الأبنية التراثية؛ بسياج الذاكرة الجماعية، فما تكاد أنْ تقرع عتباتها حتى تنتقل بك إلى جمالية الزمن العتيق وتسبح في وضاءة بريقه، تسمع ألحانه، وتشاهد رقصاته، فكل ما في القرية يحمل سمة الماضي العريق، ويتشكل ليل سمرهم من فرقة موسيقية متكاملة، تشكّلت من أرض الذاكرة، وهو ما فتح الحيّز الجغرافي على مساحةٍ أوسع؛ لتكوّن أعضاءها والوفود إليها من كل مراكز ومحافظات المنطقة، لكنّ أهم ما يميز أعضاء هذه الفرقة، هو قدومهم عبر بوابة «خريف العمر» وهذه سمة سيميائية تميّز هذه الفرقة الفلكلورية، وبدونها يختل الإيقاع البصري للمتلقي، فهمْ أشياخٌ قد بلغوا من الكِبَر عتيّا، يجتمعون في القرية التراثية، ويستلهمون ماضيهم الجميل، ويستدعون فنونه وإيقاعاته التراثية، ويقومون بممارسة الألعاب الترفيهية التي كانت في أزمانهم مثل: البلوت، والضومنة، وغيرها، وفدوا إليها، وقد نقشَ الزمن تجاعيده على صفحات وجوههم، وجسّد مكابدة الأيام والسنين في حركاتهم المثقلة بهموم العمر ومقارعة المشيب.
في هذه القرية، يحضرُ التراث، بكل مكوناته المكانية، وشخوصه، فالديكورات تحمل الطابع التراثي، والشخصيات تفدُ إليها، وهي تحمل ما كانت تتزين به الذات التراثية من أشجارٍ عطرية، وتتشحُ بلبس التراثِ من سيفٍ، وجنبيّة، واللحاف الدريهمي. ويفتح شهيته سريان رائحة الأطعمة التراثية كذلك، مما جعله يعيش ويكتمل معه المشهد بكل تفاصيله.
يحضر في ليل سَمرهم عدة ألوان تراثية، وبنصيب الأسد يفوز اللعب الشهري، والخُطوة العسيرية، إذ جُلّ السمر يكون لهذين اللونين، وإذا نظرت إلى هذين الفنين، من زاويةِ مضمونيّة؛ تلحظ أنهما قدر ارتبطا بغرض الغزل، والوجدانيات أو البوح عن مكنون الذات وطرح شجونها وهمومها، وقراءة الذات في سياق صيرورتها، وتحولاتها، وهو ما يتوافق مع الحالة العمرية لهؤلاء الشيوخ، إنك تقرأ في أهازيجهم ورقصاتهم ذاكرة الجسد الذي طالما توارى خلف سياج المشيب، وذاكرة البطولة التي طمرها وهنٌ العمرِ، والتي طالما كانت مثار الاعتزاز بالذات، وتقرأ في رقصات ذلك الشيخ؛ استدعاء الأنا الذاكرة، الأنا البطولية، والأنا العاشقة...
ويتجلى في ملامح وجهه، بوح الحنين إلى ما تبقى من ذاكرة السنين، إذ يفتقد بعض من كان يشاركه ذلك اللون بكل تفاصيله، مما يُشكّل لديه نسق الرفض، للفناء، والتمسك بالرغبة في الوجود، وتحقيق الذات حضورها.
ويزيد من لهفة قلبه ما يتضوع به المكان من أريج الريحان، وتنفّس الشيح والشذاب، وما يلبي حاجاتٍ فسيولوجية غائرة في وجدانه.
وليست هذه الأسمار بغريبة على التراث السعودي، فهذه المسامرات كانت حاضرةً في عهد الآباء والأجداد، وليس في جنوب المملكة فحسب، بل حتى في الحجاز، وغيرها من مناطق المملكة، وقد عبّر عنها كثيرٌ من أدباء المملكة؛ فهذا أحمد قنديل يذكر ما كان حاضراً في الاحتفالات المجتمعية، ومنها رقصة (الخليطي)، وقد وصفها بقيام صفّ من الشباب يقوم على رأسه شاب جميل، ويقابله صفٌ من الفتيات وتقوم على رأسه فتاة تلوح من وراء لثامها جمال ملامحها، وتفتتح هذه الجماعة الرقصة بالأهازيج، فليس بغريب على الجزيرة العربية هذا التناغم والتفاعل بين أطياف المجتمع.
وكذلك تذكرُ لي جدتي أم والدتي -رحمها الله- هذه الطقوس الشعبية في زمنهم، وهي قد شارفت على التسعين، وقد وصفت ذلك الرقص في ليل سمرهم وقيام صفٍ من الرجال يقابله صفٌ من النساء، وهي تسمى عندنا وعند بعض القبائل برقصة (الرّبْخة) ويتجاوب الصفان بتلك الأبيات التي كان مضمونها الغزل، أو الفخر بالذات والاعتزاز بالنفس، وليس في الأمر ما يشوب، أو يُخلُ بميزان العفّة والحشمة، فهؤلاء النسوة ليسوا من العالم الميتافيزيقي، بل هم أهل اللبدة أو القرية، والذي يقابلهم هم إخوتهم وأزواجهم، ومحارمهم، ومن يخرج عن الذوق المجتمعي -على ندرة ذلك- بمخالفة الحشمة أو العفة، يلقى من الحاضرين ومن خلفه السلم القبلي ما يردعه، واليوم قام بهذا الدور في ظل هذه القيادة الرشيدة تم إصدار قانون مكافحة التحرش، حفظا على الصيانة والعفة.
لكن هذه الطقوس انقرضت من البيئة الجنوبية، ولم يعُد لها حضورٌ سوى في سردية الذاكرة التاريخية لكبار السنِّ.
ومن الأهازيج الشعبية التي كانت حاضرة في ليل سمرهم تلك الأغنية التي تتغنى وتحتفي بتوحيد المملكة العربية السعودية على يد المغفور له -بإذن الله- جلالة الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- وذلك حينما بسط نفوذ القانون على ما كان بين القبائل من خلافات، وحلّ تلك النزاعات بسيادة الشريعة الإسلامية، وبدء عهد النهضة في ذلك الحين، يقول شاعرهم -رحمه الله- غازي بن مسيّد المسهري:
يالله تأيد هيبة الملك
ربْه يزيل الشرك ذا بين القبايلي
الأعلام تبدي من عدن لمصر للسراة
والبرقية قدها تكلم من محايلي
فهذا نصٌّ يجسد مرحلة من مراحل ذلك العهد الزاخر في الذاكرة الشعبية، ويتغنى بالدعاء للملك -رحمه الله- بتأييد هيبته، لإزالة معالم الاختلاف بين القبائل، ثم يتغنى بالمستوى الحضاري في ذلك العهد، وهو وصول البرقية إلى محافظة محايل عسير.
هذه هي الأجواء التي كانت سائدةَ بين كبار السنّ، وهذه هي احتفالاتهم وأهازيجهم.
وفي محاولة لقراءة المشهد التراثي في قرية بارق، قراءة ثقافية، تكشف عن المضمر من جماليات هذا الرقص، وهذا الغناء وهذه الصورة المشهدية؛ نلحظ أنّ ذلك المسنّ، يقوم بعمل نقدي، من خلال تلك الممارسة الفلكلورية، وهو مكاشفة المضمر في وعيه، ورفضه لتلك الأنساق التي كان يحتجب وراءها، مثل نسق المشيب، نسق، النسق المجتمعي.. وذلك التغنّي بالأهازيج التراثية، والتموج مع نغماتها، هو في كُنْهِهِ إعلانُ رفضٍ من الأنا الذاكرة لما كان يحدّ من حريتها الإنسانية في ممارسة جماليتها التراثية.
وهذا هو المضمر وراء ذلك الرقص، والتجاوب مع الأصوات التراثية، وهو ذاته نسق التعالي على السائد، ومواجهة الكائن بالممكن.
ويحضر النسق، ونزعة البقاء في جمالية الحضور الفلكلوري، فهو يمارسُ بفعله ذلك قمع ذلك الصوت المضمر في ذاته، صوت واهنِ العمر، وصوت الألم، وصوت المشيب، ليقول للمتلقي والقارئ الضمني حضوره بكامل حيويته وفاعليته.
إنّ ذلك الفلكلور التهاميّ، هو تحييدٌ جماليّ لذلك الكبْت النسقي، وقراءة للذات من خلال لحظتها الآنية، وخطاب الأنا الواعية بأحقية حضورها، ومراجعةٌ لبعض قيود الأنا العليا.
** **
- إبراهيم بن عامر عسيري