كونستانس فوستر- مجلة «ريدرز دايجست» الصادرة في شهر أبريل 1946
عندما اشترينا مزرعتنا، كنّا نميل إلى تطبيق كل أساليب الحياة المدنيّة، من حيث السرعة والضغط المستمر في إدارة أعمال المزرعة. ولكن مُزارعنا المقيم «بن» وضع حدّاً لمتطلباتنا المتعالية، فحين سألناه إن كان قد انتهى من حراثة حقل الذرة؛ حدّق بعينين نصف مغمضتين باتجاه الشمس الآيلة للغروب وقال في هدوء: «لا، ولكن الأرض ستكون موجودة في الصباح»!
إن فلسفة المُزارع البسيطة والمختصَرة جعلتني أفكّر في بعض قيَمنا المتعارف عليها في هذه الحياة، وهي الأشياء التي ستكون موجودة في الغد بكل تأكيد. كثير منا يطارد مصالحه الآنيّة بطريقة هائجة لا تترك وقتاً للاستمتاع بما هو متوفر لدينا من المباهج الدائمة، فنندفع مثلاً لنقف انتظاراً لمن سيباشر خدمتنا في المتاجر والمطاعم، ونتسابق مع الآخرين للجلوس على مقاعد الحافلات، ونلهث في سبيل الحصول على مستوى معيشي أعلى ليواكب مستوى حياة جيراننا أو أقاربنا.وطوال هذه الأوقات التي تتلاحق فيها أنفاسنا، لا تلفت انتباهنا كثير من النِعم العظيمة الماثلة أمامنا مباشرة ولا نقدّرها حق تقديرها.
إن التأمل في سكون الليل البهيم، ومتعة النظر إلى النجوم المتلألأة في أفق السماء، وضحكات الأطفال البريئة، والابتسامة المشرقة على وجه صديق.. كلّ هذه الأشياء تنتمي إلى صنف المُتع الدائمة التي لا تُقدّر لحظاتها بثمن. كذلك حُبّ الرجل لامرأته، والوالد لولده، والأخ لأخته. فالشَّعر ربمّا يشيب، ولكن عاطفة الرابطة العائلية القوية تجعلنا نرى من نُحبّ يبدو جميلاً جمالاً سرمدياً. وهذا التلاحم الأسري يقف حاجزاً منيعاً يحمينا من سهام السنين الغادرة.
إن أكبر أسباب ركضنا المحموم هو الاعتقاد الخاطيء عن طبيعة الوقت، فلقد تربّينا على عبارات نحفظها ونردّدها مثل: «الوقت يزحف قُدماً إلى الأمام»، وفي الحقيقة أن الوقت لا يزحف، بل هو ثابت ونحن الذين نزحف خلاله. فالساعات هي مجرّد آلات صنعها الإنسان لتقسيم الوقت إلى أجزاء صغيرة، وبدون هذه الأجزاء فإن كلّ الوقت لدينا هنا، فالأمس كاليوم كالغد.
ونحن في الريف بعيدون عن ضوضاء المدنيّة الصاخبة، ونعيش حياة أقرب إلى فطرة الإنسان الأولى، ولذلك سرعان ما اكتشفنا أن لا وقت لدينا للاستعجال، فلو استحثّينا الخُطى مثلاً في طريقنا وسط الغابة فربما لن نتمكّن من التعرّف على أنواع براعم النباتات وألوانها الزاهية، ولربّما فاتنا أن نلاحظ الأشجار الباسقة التي اتخّذتها الطيور سكناً آمنا لأعشاشها.
وفي متجر القرية العام، حيث تُباع الجبنة والأحذية على نفس الطاولة، تجد الناس يقفون مليّاً لتبادل الأحاديث الودية وتمضية الوقت في الدردشة، وربّما يسألونك للاطمئنان على شفائك من السُّعال الذي كنتَ تُعاني منه، وعن الدجاج إذا كان قد وضع بيضاً كافياً. وهكذا، هناك الكثير من الوقت للتعارف والتعاطف الإنساني مع الآخرين.هذه هي القيَم لتي تدوم بين الناس.
وربما كانت علاقة المحبّة هي أقواها، ففي عالم يزخر بالأحداث المتلاحقة والوجوه المتغيّرة، تبدو أواصر المحبّة هي الأجمل وهي التي تبقى إلى الأبد.
نعم، فبإمكان مُزارعنا العزيز «بن» أن يخلد إلى نومه بسلام، وفي الصباح سيجد الأرض باقية كما تركها، تنتظره ليكمل حراثة حقل الذرة.
** **
- أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
@aalsebaiheen