د. عبدالحق عزوزي
ناقشت النخب المشاركة في منتدى دافوس التحديات الكبرى التي تواجه العالم تحت شعار «التعاون في عالم منقسم»، بدءًا من مخاطر الركود الاقتصادي وتداعياته وصولاً إلى تفشي أزمات الطاقة والغذاء ومستقبل الأمن الغذائي والأمن الجماعي. هذا المنتدى انعقد أيضًا فيما ساهم تفشي وباء كوفيد-19 والخلافات التجارية بين الولايات المتحدة والصين والهجوم الروسي على أوكرانيا في تزايد الخلافات الجيوسياسية وتصاعد السياسات الحمائية.
فهل العالم الاقتصادي بخير؟ وكيف سيكون في المستقبل؟ هذان سؤالان يحيران الخاص والعام، وهما محددان لأن عليهما مستقبل البلدان والحكومات بما في ذلك العشرات من الحكومات الغربية التي تنتظرها انتخابات تشريعية بل ورئاسية في المدى القريب، حيث إن البقاء في كرسي الحكم في تلكم البلدان منوط بالأمن الاجتماعي الذي ستكفله هاته الحكومات لمواطنيها.
الانطباع الذي يمكن أن نخرج منه من خلال بعض التدخلات القائمة على أرقام دقيقة هو انطباع إيجابي تفاؤلي، خاصة إذا تتبعنا ما جاء في تدخل المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، وهي تقول إن «الأمر أقل سوءاً مما كنا نخشاه قبل شهرين».
فبعد المخاوف من أن يكون فصل الشتاء محفوفاً بالمخاطر في ظلّ أزمة الطاقة، يبدو الاقتصاد العالمي أكثر ارتياحاً، ولاسيما بسبب أحوال جوية معتدلة في أوروبا تبعد مخاطر انقطاع في إمدادات الغاز والتيار الكهربائي، ما ساهم في كبح الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة.
ولا يجب أن ننسى الأمل الجديد الذي يأتي من الصين، وهي بلدة من المحركات التقليدية للاقتصاد العالمي، حيث تخلت عن سياستها المتشددة في مكافحة كوفيد-19، المعروفة بسياسة «صفر كوفيد». وبعد شهر فقط من رفع القيود الصحية الصارمة السارية منذ ثلاث سنوات، أكد نائب رئيس الوزراء الصيني مؤخراً أن سرعة بلوغ ذروة الوباء والعودة إلى وضع طبيعي «تخطت توقعاتنا»، باعثاً الأمل في انتعاش اقتصادي خلال السنة الجارية.
وإذا كان هذا التغيير في هذه السياسة الصحية إيجابياً لباقي العالم، فهناك أشياء عديدة يمكن أن تسرد ويمكن أن تحد من هذا التفاؤل... فالانتعاش الاقتصادي الصيني يبعث مخاوف من تزايد التضخم، مع مخاطر تسجيل فورة للطلب في هذا البلد، وذلك في حين ما زال ارتفاع الأسعار «أعلى مما ينبغي» في منطقة اليورو، بحسب الخبراء الإستراتيجيين الاقتصاديين.
وزيادة التضخم هاته ستدفع المصارف المركزية إلى زيادة معدلات فائدتها، مما سينعكس سلباً على الاقتصاد لأن ارتفاع كلفة الاقتراض قد يكبح إنفاق الأسر واستثمارات الشركات، وهو ما شرحته مؤخراً لطلبتي في إحدى أقسام السلك الثالث بكلية الحقوق بفاس وأنا أدرسهم مادة نظريات التنمية؛ زد على ذلك، وليعذرني المتفائلون، أن عواقب معدلات الفائدة لم تظهر بعد.
كما لا يجب أن نبالغ في نعت الاقتصاد الأمريكي بالقوي جدًا؛ فأمريكا تبدي منذ الآن بوادر تباطؤ اقتصادي، وحرصاً منها على تحفيز الاقتصاد في مجالات واعدة للمستقبل، مثل البطاريات الكهربائية والألواح الشمسية، أقرت الولايات المتحدة الصيف الماضي خطة مساعدات مكثفة، في آخر مثال على المواجهة الاقتصادية الجارية بين بكين وواشنطن.
وتثير هذه الإجراءات تنديدًا في أوروبا التي تخشى أن تكون الضحية الأولى لها مع رحيل مجموعاتها الصناعية الكبرى إلى دول تمنح مساعدات أكثر سخاء؛ ولكن رغم هذا التنديد، فإننا نشهد موجة حمائية» على الصعيد الدولي.
وأتعجب لمن يتناول هذا الموضوع على أنه حديث ولكنه قديم جدًا، فنتذكر كيف تحولت دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية بين عشية وضحاها من الليبرالية اللامتناهية إلى متدخلة حمائية حفاظًا على مؤسسات الدولة من الانهيار مما أدى إلى تغير الميكانيزمات الاقتصادية والمالية الدولية. فالأزمة المالية التي عاشها العالم سنة 2008، والتي أصبحت أزمة اقتصادية، ليست الأولى في التاريخ وإنما هي الأولى التي يمكن اعتبارها كونية.
فقد كان النظام المالي الأمريكي على حافة الانهيار في أكتوبر 2008 بسبب انعدام السيولة. وقد تم إنقاذ البنوك وشركات التأمين الأمريكية عن طريق التجنيس والوعد بالمال العمومي غير الموجود، وأصبح الدين الخاص عموميًا. عبرت الأزمة، بشكل بطيء لكن بشيء أكيد، من الولايات المتحدة الأمريكية المحيط الأطلسي لتصل إلى البنوك الأوروبية الكبرى. وهو ما جعل كل الدول ودون استثناء تتغاضى عن سياساتها الليبرالية وتفرض قواعد حمائية أبى من أبى وشاء من شاء.
خلاصة القول من كل هذا الكلام أنه من الخطأ الانتقال في هاته الظرفية الدولية الحالية من كثرة التشاؤم إلى كثرة التفاؤل...