د. محمد بن إبراهيم الملحم
في لقاء ضمني بمجموعة من الزملاء المعلمين أكثرهم تقاعدوا كان آخرهم أحد الزملاء تقاعد السنة الماضية وقد مكث بنفس المدرسة الثانوية أغلب إن لم يكن كل سنوات خدمته على وجه التقريب، ونعلم جميعاً حبه لعمله وحب طلابه له لا سيما أنه شغوف بمهنة التعليم، وهناك حالة معروفة لأولئك الذين يتعلقون بمجال عملهم حتى إنهم لا يريدون التقاعد ويتمنون الاستمرار في العمل، بل حكي عن بعضهم إنه يلبس ملابس العمل (إن كانت مختلفة عن اللباس المعتاد) ويتجه لمقر عمله فقط ليجلس مع زملائه فترة الصباح ثم يعود لمنزله وقد تجدد نشاطه، وذلك خير له من جلوسه بمنزله لا يلوي على شيء البتة فتصيبه حالة من الاكتئاب. وقد سألنا زميلنا هذا عما إذا كان ذهب للمدرسة بعد تقاعده من باب الاشتياق لعمله ومجاله الذي يحبه وهذا المكان الذي «عاش» به عمراً، فكانت إجابته خلاف ما توقعناه حيث قال: لا لم يحدث ما تصفون أو تتوقعون بل إني لم أذهب سوى مرة واحدة لهدف ما، وكنت إذا مررت بمبنى المدرسة أتساءل كيف أمضيت شطراً من حياتي في هذا المكان فقط.
حسناً قد تكون هذه إجابة صادمة ومفاجئة ولكن بقليل من التحليل سنفهم أنها طبيعية جداً، أولاً يجب أن نشير أن المتقاعدين صنفان: صنف يحب مهنته وصنف لا يحبها، فالأول هو من نتحدث عنه قبل قليل والثاني كلنا نعلم علم اليقين أنه ممن يفرح بالتقاعد ويرمي سبع حصيات على مقر عمله بعد تقاعده ولا يفكر يوماً ما بالرجوع إليه لزيارة أو ذكرى، بل إن بعضهم إن كان محتاجاً لمراجعة من نوع ما في مقر عمله يرسل غيره ليقوم بها حيث لا يطيق أن يدخل ذلك المبنى «الكريه» بالنسبة له.
هذه الحالة شكّلها «عدم حب» الشخص لطبيعة عمله وربما كان يحب شيئاً آخر، ولكن ظروفه ألجأته إلى القبول بالواقع لأكل العيش، ويشترك معه أيضاً بعض من يحب مهنته ولكن ظروف البيئة الإدارية المحبطة في بيئة العمل جعلته يكره مكان العمل ومن فيه فهو لا يختلف عن الأول في شيء وتظهر عليه نفس العلامات ويمارس نفس السلوك تقريباً.
نعود للنوع الأول، وهم أولئك الذين أحبوا مهنتهم وكانت بيئة العمل طبيعية لا تنغص عيشهم وتجعل من ممارستهم لشغفهم المهني (تدريس - طب - هندسة - عمل إداري أو تقني) في إطارها الطبيعي فهؤلاء أرى أنهم ينقسمون إلى صنفين حال التقاعد: الأول من كانت مهنتهم هي كل حياتهم وصانعة لشخصيتهم الاجتماعية بالكامل فالناس يعرفون الشخص من خلال مهنته وهو يتعاطى العلاقات الاجتماعية بناءً على تلك المهنة، فهؤلاء لأن المهنة أو الوظيفة قد حبستهم داخل إطارها لا يملكون كاريزما اجتماعية غير ما خلقته الوظيفة لهم، ولذلك فإنهم يسقطون فوراً حال التقاعد وتتلبسهم حالة الاكتئاب والقلق، أما الصنف الثاني فهم من كانت مهنتهم قيمة مضافة لقيمتهم الاجتماعية حيث إن علاقاتهم تشكلت في الأصل من خلال أسرتهم وأقاربهم وجيرانهم ومعارفهم وحافظوا على صداقاتهم القديمة بالتواصل المستمر وربما كانوا أعضاء فاعلين في أحد الجوانب التي تربطهم بالمجتمع كما تفعل مهنتهم فعندها لا يمثل التقاعد لهم أي تهديد نفسي بل ربما كان انتهاؤهم من واجب الوظيفة محطة استراحة حقيقية من لأواء متطلباتها وواجباتها التي تثقل الكاهل أحياناً. وزميلنا الذي تحدثت لكم عنه هو من هذه الفئة فهو إمام جامع وخطيب وله قيمة نوعية بين جيرانه وأقاربه وشخص متواصل مع كل أصدقائه ولا يفوت مناسبة إلا وكان له حضور، وبالتالي فإن المدرسة على الرغم من حبه لها وكونه أول الحاضرين في سجل التوقيع يومياً، تظل محطة جميلة في سجل حياته يتذكرها بفرح ولكنه ليس محبوساً فيها. اسمحوا لي أن أقدم تحية لمربي الأجيال زميلي الفاضل معلم التربية الإسلامية الأستاذ القدير الشيخ خالد بن عبدالله الدراج زميلي منذ فترة الشباب كطلاب في التعليم العام كما زاملته أيضاً كمعلم في ثانوية النووي بالأحساء وتحية لكل المعلمين الأفاضل أمثاله المخلصين لمهنتهم والمنتمين لها.
***
- مدير تعليم سابق