جانبي فروقة
ما شهدناه خلال الأعوام الثلاثة الماضية من انتشار كوفيد - 19 واضطراب سلاسل التوريد العالمية والحرب الروسية - الأوكرانية وتزايد التوترات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية جعل الدول تحاول دراسة أنماط التجارة الدولية ومستويات التركيز فيها سواء على سلع معينة أو التركيز على عدد قليل من الدول المصدرة حيث وجد الباحثون أن التجارة العالمية المركزة خلقت مضاعفات سلبية من حيث تأمين السلعة البديلة في الوقت المناسب لا سيما مع الجو المشحون واضطراب العلاقات السياسية بين الدول. فالعلاقات بين الدول وفرض السياسات الجمركية الحمائية هي العقبة الكبرى في التجارة الدولية وهذا الموضوع ليس بجديد فقد فرض الرئيس الأمريكي ليندون جونسون عام 1964م ضريبة جمركية (سارية المفعول حتى اليوم) تدعى «ضريبة الدجاج» وهي تعرفة جمركية على استيراد الشاحنات الخفيفة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكانت هذه الضريبة إجراء انتقاميا من التعريفات الأوروبية المفروضة على واردات الدجاج الأمريكي. وللعلم فإن سعر الدجاج في أمريكا اليوم ارتفع بنسبة 15 في المائة في عام 2022 م مقارنة بعام 2021م.
بينت دراسة لشركة ماكينزي للتجارة العالمية في عام 2021 م أن 40 في المائة من قيمة المنتجات في التجارة العالمية تتم بحيث يقوم الاقتصاد المستورد بالاعتماد على ثلاثة دول أو أقل لتوريد منتج معين وقصة السلعتين: فول الصويا والقمح توضح نمط التركيز هذا في التجارة (حيث تقسم التركيز إلى نمط التركيز العالمي ونمط التركيز الاقتصادي المحدد).
ولشرح النمط الأول - التركيز العالمي - نأخذ فول الصويا مثالا حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل تعدان أكبر منتجين لفول الصويا في العالم وينتجان 90 في المائة من المعروض المتداول عالميا في حين أن أكبر 15 مستوردا على مستوى العالم بما في ذلك الصين واليابان وتايلند تستورد 95 في المائة من فول الصويا المتداول عالميا و90 في المائة من استيراد كل بلد منها يكون حصرا من الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل.
وأما النمط الثاني - التركيز الاقتصادي المحدد - يمكن شرحه عن طريق سلعة القمح حيث إن 15 اقتصادا توفر 90 في المائة من المعروض المتداول عالميا ولكن معظم البلدان تقوم باستيراد القمح فقط من عدد محدود فمثلا تركيا قامت بعام 2021م باستيراد أكثر من 90 في المائة من القمح من روسيا وأوكرانيا وكذلك الفليبين استوردت أكثر من 80 في المائة من احتياجاتها من القمح من أمريكا وأستراليا.
وفي مجال الطاقة نجد نفس الأنماط التركيزية فعلى سبيل المثال نجد أن استيراد الصين للغاز يمكن أن يقع تحت النمط الأول من التركيز العالمي ففي عام 2021 م استوردت الصين حوالي 85 في المائة من احتياجاتها من الغاز عن طريق خطوط الأنابيب من تركمانستان وروسيا وكازاخستان. كما نجد المكسيك في قارة أمريكا تستورد أكثر من 95 في المائة من حاجياتها من النفط المكرر من الولايات المتحدة الأمريكية.
بينما نجد تحقيق النمط الثاني بشكل جزئي في استيراد الصين للنفط حيث استوردت في عام 2021 م ما قيمته 229 بليون دولار من النفط الخام الذي يعد ثاني أغلى سلعة مستوردة في الصين بعد الدارات والرقائق الإلكترونية حيث قامت 44 دولة بتوريد النفط الخام للصين ومنها دول صغيرة مثل ألبانيا وبروناي ولكن شكلت أكبر 5 دول مصدرة وهي (السعودية وروسيا والعراق وعمان وأنغولا) حوالي 60 في المائة من واردات الصين للنفط الخام.
تجنح الصين لمستويات عالية التركيز في استيراد بعض السلع العالمية ففي مجال التعدين تعد الأولى عالميا في استيراد الحديد والذي يشكل ثلثي استيرادها من المعادن ويقدر استيراد الصين بعشرة أضعاف استيراد اليابان للحديد بينما يشكل استيراد الحديد مثلا 15 في المائة فقط من استيراد أمريكا للمعادن. وتعد الصين أيضا أكبر مستورد للكوبالت والليثيوم والنيكل.
الاعتماد على الاستيراد والتبادل التجاري هو حاجة مستمرة ومتطورة لجميع البلدان وما تقوم به الدول الآن هو إعادة دراسة سلاسل الإمداد في ظل العلاقات الدولية وتوازناتها وفحصها بحيث تحول الخطر المحتمل بمستويات التركيز في استيراد سلعة معينة من بلد معين ومنطقة معينة إلى فرصة باعتماد سياسات ذكية من التنويع أو الفصل أو تعميق الروابط التجارية وحتى بتبني سياسات حمائية بتوطين بعض الصناعات الاستراتيجية وأكبر دليل ما فعتله الولايات المتحدة الأمريكية في تبني قانون الرقائق Chips Act واستثمار 52 بليون دولار داخل أمريكا لصناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية.
وبمقارنة القطاع الصناعي في الاقتصاد الصيني بالاقتصاد الأمريكي نجد مساهمة القطاع الصناعي بما يقرب من 33 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2021م بينما تساهم الصناعة فقط بـ 11 في المائة في الناتج المحلي الأمريكي. والناتج المحلي الصيني ينمو بوتيرة متسارعة فقد كان (1.2 تريليون دولار) يشكل 12 في المائة من الناتج المحلي الأمريكي في عام 2000م ليبلغ 77 في المائة في عام 2021م ويصل إلى 17.7 تريليون دولار.
قدمت مجلة الإيكونوميست في عام 1986 م مؤشر البيغ ماك Big Mac Index والذي يعد نظرية لفهم سعر الصرف لعملة أي دولة بمقارنة قدرة الفرد في هذه الدولة على شراء البرجر وهذا المؤشر يدل على وجود فجوة هائلة بين اليوان الصيني والدولار الأمريكي فعلى سبيل المثال يوضح المؤشر أن تكلفة بيج ماك في الصين هي 24 يوان و5.15 دولار أمريكي في أمريكا وسعر الصرف الرسمي هو 6.75 يوان لكل دولار أمريكي بينما بموجب مؤشر البيغ ماك يجب أن يكون سعر الصرف الضمني 4.66 (وهو ناتج الفرق بين سعر البرجر باليون إلى الدولار) لذلك يشير المؤشر أن اليوان الصيني مقوم بـ31 في المائة تقريبا أقل من قيمته وعليه إذا اعتبرنا أن الناتج المحلي الصيني في عام 2021م كان 114.92 تريليون يوان فهي تعادل 24.66 تريليون دولار حسب السعر الضمني لمؤشر بيغ ماك (و هو أعلى من الناتج القومي الأمريكي البالغ 23.32 تريليون في 2021م) وليس 17.7 تريليون دولار حسب الاحصاءات الرسمية.
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية