سارا القرني
في زمنٍ كانَ يطغى فيه العقلُ على المظهر.. توقّفَ رجلٌ وسيمٌ أنيق أمام سقراط.. يتبختر بردائه، ويتفاخر بطلّته، فقال له سقراط: «تكلم حتى أراك»!
أما في زمننا هذا.. يمرّ الرجل أمامَ مذيع فيوقفهُ ويقول: «حدّثني عن الآوت فيت»!
نحنُ في زمن التهاوي والضياع.. أبدأ مقالتي بكثيرٍ من علامات التعجّب والأسى على ما وصل إليهِ شبابنا، ليس كلّهم بل فئة كبيرة منهم للأسف، الكلّ يلهث خلفَ الشهرة مسعوراً، يفعل الأعاجيب كي يظهر في «ترند»، ويتخلى عن المبادئ كي يثير الجدل ويشتهر، يضرب قيم المجتمع ليقولوا عنه «متحضّر ومطنوخ» ويرفض من الأدلة والأحاديث ما شاء ليقولوا «لا يؤجّر عقله بل يتأمل ويفكر»!
نحن في زمن المشاهير.. الذين تصدّوا للفتوى، وانبروا للحقائق العلمية كي يفنّدوها لمتابعيهم، وأصّلوا لقواعد الحياة المجتمعية حسب أهوائهم، فأصبحوا أمثلة المجتمع التي يُشار إليها بالبنان، ويُطلق من أجلها العنان، ويُضرب بهم المثل في الحرية.. ويُستدلّ بفعلهم وقولهم للحجة والبيان!
نحنُ في زمن الجهل.. جهلٌ يتعرّى ليتلقفهُ العامّة، تجدُ من ينكره علناً.. ويطبّل لهُ في الباطن، وتجد من ينكره في السرّ والعلن، فكم من امرأةٍ انتقدت مشهورةً لأنها رقصت.. ليس لأنها تنكر الفعل.. بل لأنها لا تستطيع أن ترقص مثلها في العلن ثمّ لما اشتهرَت رقصت واستنكرت من ينكر رقصها، وتجد من يقبّح الاختلاط ويجعله إثماً، ثمّ لما جاءت الفرصة انفتحت شهيّته للحفلات والرقص مع النساء، وتجد من يفسّر آيات الله على هواه فينكر السحر والجنّ والعين ليُقال عنه مفكر عظيم وعقلية فذة، لأنّ عقله الضئيل ينكر ما لا يُرى، ولو أنكرتَ «انفصام الشخصية» التي لا تراها أجهزة العلم ولا أعين الناس لقال عنك جاهل لا تفقه، لأنّ كلام العلم مقدّم عنده على كلام الله!
من ينقذنا من المشاهير؟ سوء حشمة، وضيق ملبس، إن اكتسَت لبساً.. أظهرت مفاتن جسد، ورجالٍ خانتهم الرجولة قولاً وفعلاً.. تشبّه بعضهم بالنساء فقالوا «مودل»، وانسلخَ آخرٌ من عروبته فقالوا «متطور»، ورضي بعضهم بالدناءة فقالوا «منفتح»، ونساءٌ ينتقدون عوائلهم علناً ليحطّوا من منزلة الأب والأم عند كلّ متابع ومتابعة، فلا تقوم لبيوت الناس قائمة إذا اهتزت مكانة الآباء، وخروجٌ عن المألوف.. وإعادة لكلّ ما كان في المجتمع ممنوعٌ ومحذوف، وضعوا في قواميس الناس أنّ الحرية «عُري»، وأنّ الحديث في الدين بأيّ شكلٍ من الأشكال ليس حراماً بل حرية رأي، وأنّ العلماء يُخطئون.. وهم فعلاً يخطئون لا حرج، لكنّهم قالوا كذلك لهزوا مقام العلماء فتصبح مخالفتهم سهلة، وأنّ الدين يُسرٌ كلّه وإن أخطأت، لا تعلقٌ في رجاءٍ ولا خوفٌ من عقاب!
امرأةٌ تشجّع فريق كرة قدم فيه «حلوين»، ورجلٌ يدافعُ عن مشهورةٍ مخطئة.. لأنها من بنات القبيلة وإن كانت مخطئةً في الدين!
في نقاشٍ خضتُه منذ أيام مع أحدهم الذين دافعوا عن مشهورةٍ انتقدتُها لأنها قالت قولاً مشيناً في بثّها المباشر.. قال لي إنني وسطية ولست وسطية، لم أفهم من قولهِ إلا أنني وسطيةٌ لأنني أرفض التشدد، ولكنني غير وسطيةٍ لأنني لا أقبل الانحلال وقلة الأدب!
أنقذونا من المشاهير.. نساءً ورجالاً، حاسبوهم بقوة، لا تنتظروا هاشتاقات تنكر أفعالهم لتحاسبوهم، ولا تتركوا لهم حرية القول وحرية الفعل، فالحرية نسبيةٌ عند الجميع، يقبل بها من يراها انفتاحاً على المصراعين، ويرفضها من يراها نافذةً صغيرةً في سجنٍ محكم الإغلاق، هذا ينتقد هذا لضحالة فكره، وذلك ينتقدهُ لانغلاقه وضياع عمره!
أختم بقصيدةٍ أعجبتني جداً للشاعر حسام الدين جلول، يقول فيها:
الكلُّ في هذي الديارِ مُدرِّسٌ
والكلُّ فيها شاعرٌ وأديبُ
والكلُّ إن شئتَ البناءَ مهندسٌ
والكلُّ إن شئتَ الدواءَ طبيبُ
والكلُّ في علمِ الحديثِ مُحدِّثٌ
والكُلُّ فى عِلمِ الكلامِ خطيبُ
والكلُّ قد درسَ الحقوقَ وعلمها
والكلُّ فى عِلمِ القضاءِ رهيبُ
والفقهُ عِندَ الناسِ أمرٌ هينٌ
فالكلُّ يُفتي دائمًا ويُصيبُ
ما عادَ في هذى الديارِ تخصصٌ
هذا لَعمْرِي مُخجِلٌ ومُعيْبُ
لو كلنا عَلِمَ الحدودَ لعقلِهِ
ما عاثَ فينا جاهِلٌ وكذوبُ!